فرفع في الاستثناء من الموجب، و هذا من ظواهر النحو، و ليس من خافيه في شيء.
و كذلك قول المتنبي:
و تكرمت ركباتها عن مبرك تقعان فيه و ليس مسكا أذفرا
فجمع في حالة التثنية، لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان، فقال (ركبات) و هذا من أظهر ظواهر النحو، و قد خفى على مثل المتنبي.
و ليخلص ابن الأثير إلى أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة و لا بلاغة و لكنه يقدح في الجاهل به نفسه، لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه، و هم الناطقون باللغة، فوجب إتباعهم.و أما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، و إلى فك إدغام، من أجل إقامة الميزان الشعري.
4 – النقد البلاغي في المثل السائر:
اهتم ابن الأثير بهذا الجانب اهتماما بالغا منطلقا بالتنظير و تحديد التقسيمات البلاغية و تعريفها.
أ – البيان و التحسين:
يعتبر ابن الأثير أن فائدة وضع اللغة هو البيان و التحسين، فأما البيان فقد وفى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دل على مسمى واحد، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بينا مفهوما، لا يحتاج إلى قرينة. و لو لم يضع الواضع من الأسماء شيئا غيرها، لكان كافيا في البيان.
و أما التحسين فان الواضع لهذه اللغة العربية نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة و البلاغة فيما يصوغونه من نظم و نثر، و رأى أن من مهمات ذلك (التجنيس)، و لا يقوم به إلا الأسماء المشتركة، التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعدا، فوضعها من أجل ذلك.
ب – الحقيقة و المجاز:
الحقيقة فهي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي، و أما المجاز فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، ويضيف " أن كل مجاز فله حقيقة، لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له، إذ المجاز هو اسم للموضع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها ".
و أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة و على طريق المجاز باختلاف لفظه، فانظر، فان كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز، فلا ينبغي أن يحمل إلا على طريق الحقيقة، لأنها هي الأصل، و المجاز هو الفرع، و لا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلا لفائدة مثال ذلك قول البحتري:
مهيب كحد السيف لو ضربت به ذرا أجا ظلت و أعلامها وهد
و يروي أيضا (لو ضربت به طلى أجا) جمع طلية. و هي العنق. فهذا البيت لا يجوز حمله على المجاز. لأن الحقيقة أولى به ألا ترى أن (الذرا) جمع (ذروة) و هو أعلى شيء، يقال: ذروة الجبل أعلاه. و الطلى جمع طلية و هي العنق. و العنق أعلى الجسد، و لا فرق بينهما في صفة العلو هنا. فلا يعدل إذا إلى المجاز، إذ لا مزية له على الحقيقة. و هكذا كل ما يجيء من الكلام الجاري هذا المجرى، فانه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه.
ج – الفصاحة و البلاغة:
يقول ابن الأثير: " إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين، و أعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة، لا تحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، و إنما كانت بهذه الصفة، لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر، دائرة في كلامهم. و إنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها. وذلك أن أرباب النظم و النثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، و سبروا و قسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها، و استعمالها دون غيرها سبب ظهورها و بيانها، فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن ".
و عند حديثه عن الاستنباط، يورد من ذلك شعرا لأبي تمام:
و لهت فأظلم كل شيء دونها وأضاء منها كل شيء مظلم
فان الوله و الظلمة و الإضاءة كل ذلك مفهوم المعنى، لكن البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط. و المراد به أنها ولهت فأظلم ما بيني و بينها، لما نالني من الجزع لولهها، كما يقول الجازع: أظلمت الأرض علي، أي أني صرت كالأعمى الذي لا يبصر. و أما قوله: (و أضاء منها كل شيء مظلم) أي وضح لي منها ما كان مستترا عني من حبها إياي.
¥