في حين نجد مصطفى يس يميز بين التناص و السرقة بقوله: " إن السرقة ليست مرادفا تماما للتناص، لكن أشكالها الموظفة تعد ضمن الحالات التي يتضمنها هذا المصطلح الحديث، فهو أعم و هي أخص، و هو لغوي أدبي، و هي في بعضها لغوية، و هي حكم خارجي على بناء يتسم بالنشاط الخيالي، و هو صفة ملازمة لهذا البناء الخيالي الذي يتجاوز فيه الحاضر مع الماضي، و هي تعتمد على المشابهة، أما هو فيعتمد أكثر على التضاد".
بعد هذا التقديم النظري لموضوع السرقات، يتناول الأستاذ خصوصيات هذا الموضوع بالنسبة لشعر بشار من الناحية التركيبية و الدلالية.
أ – السرقات على المستوى التركيبي:
1 – سرقات بشار من الشعراء:
يمكن القول أن بشارا نجا من تهمة السرقة باعتباره كان يتصرف بمهارة كبيرة في الأبيات التي يتأثر فيها بغيره من الشعراء، و كذلك لأنه كان بمنأى عن معترك الخصومات النقدية. فجميع النقاد الذين تعرضوا لشعره لم يقصدوا ذمه أو اتهامه بالتقصير، و كانوا يشيرون إلى الأشعار التي تأثر فيها بغيره فيسمون ذلك تشابها أو تقاربا. و هذا ما ذهب إليه أبو هلال العسكري مبعدا شبهة السرقة عن بشار، في قوله: "والحاذق يخفي دبيبه إلى المعنى و ستره غاية الستر"، فقد ميز أبو هلال بين نوعين من السرقات. و تميز الدراسات المعاصرة كذلك بين نوعين من التناص: التناص الظاهر و التناص الخفي.
كما يبعد المرزباني بدوره تهمة السرقات عن بشار، رغم أن هذا الأخير قد أحسن غاية الإحسان في الأخذ عن جميل في هذا البيت:
كأن المحب قصير الجفون لطول السهاد و لم تقصر
في حين يقول بشار:
جفت عيني عن التغميض حتى كأن جفونها عنها قصار
و أخذ العتابي عن بشار هذا البيت بقوله:
و في المآقي انقباض عن جفونها و في الجفون عن الآماق تقصير
و هذا ما لا يوافقه الأستاذ في أحكتم القيمة التي أصدرها المرزباني، و التي لا أهمية لها في هذا المجال.
2 – سرقات الشعراء من بشار:
لقد كان من الطبيعي أن يتأثر أكثر الشعراء بشعر بشار، فقد كان رائد مدرسة الشعر المحدث يتبارى الشعراء في اللحاق بها، و الانتساب إليها، و شهد له الشعراء أنفسهم بذلك كأبو العتاهية، حيث قال محاورا بشارا: " ما لذت إلا بمعناك ولا اجتنيت إلا من غرسك". و يقول عنه أبو بكر الصولي: "إن جميع المحدثين أخذوا منه و اتبعوا أثره ". و من المحدثين الذين أخذوا منه تلميذه و راويته سلم الخاسر. يروى أن بشارا لما قال:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته و فاز بالطيبات الفاتك اللهج
و أخذه تلميذه سلم الخاسر فقال:
من راقب الناس مات غما و فاز باللذة الجسور
فقال بشار حين سمع بهذه السرقة: " يعمد إلى معاني التي سهرت فيها ليلي، و أتعبت فيها فكري، فيكسوها لفظا أخف من لفظي فيروى شعره و يترك شعري ".
و فيما يخص الجانب التطبيقي، فقد أورد الأستاذ مجموعة من الأمثلة من سرقات بشار من الشعراء روعي في اختيارها التشابه على المستوى التركيبي بين النص السابق و النص اللاحق أو الاشتراك بينهما في بعض الوحدات المعجمية. و سنكتفي في هذا العرض بالتطرق للمثال الأول:
حين قال بشار:
و طال علي الليل حتى كأنه بليلين موصول فما يتزحزح
فمأخوذ من قول عدي بن الرقاع العاملي:
فكأن ليلي حين تغرب شمسه بسواد آخر مثله موصول
حيث يشترك البيتين في ثلاث وحدات معجمية: الليل – كأن – موصول، و تعتبر هذه الوحدات أساسية، كما يشترك البيتين في عدد الوحدات و البالغة تسعة في كل بيت، أما من ناحية التركيب النحوي فنجد مجيء اسم المفعول (موصول) خبرا ل كأن فيهما معا. و تجمع هذه العناصر جميعها لتظهر وجود التناص بشكل بارز. و بعد الكشف عن التوظيف النحوي لعناصر البيتين يخلص الأستاذ الذهبي إلى أن البيت السابق ليس عوضا عن البيت اللاحق، كما أن اللاحق لا ينسخ السابق، اذ لكل منهما شكله الجمالي المتميز الذي يشكل هويته و يبرر بواعثه في الوجود.
ب – السرقات على المستوى الدلالي:
¥