تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القدس (خاص بمسابقة القصَّة القصيرة)

ـ[الضَّيْغَمُ]ــــــــ[17 - 01 - 2010, 11:45 م]ـ

القدس

كنت ذاتَ يومٍ , في ترحالي أقتبس الأنوار من المدن العتيقة , وعندما تنفَّسَ الصُّبحُ , جلستُ تحت الشَّجرةِ بمدينةٍ يهطلُ الحُسْنُ فيها , وفي يدي سيفٌ ورمح , أشتكي آلامَ السَّفرِ: آهٍ .. لقد تَعِبَتْ من السَّفَرِ الطَّويلِ حقائبي , وتعبتُ من خيلي ومن غزواتي.

لم أرَ شخصاً في هذه المدينة سوى غرباناً تصنع الأوكار على أطلال الزَّيتونِ الصامد , وكان سيفي في غمده , نائماً في حديقته كالوردِ ,بينما كنتُ جالساً رأيتُ قمراً طلَّ , وبدراً هلَّ , فتاة رأيتُ في شعرها الأسودِ ليلاً البدرُ فيه منير, يحضنهُ شالٌ من الكشمير , وخصلة تضطمخُ بالطِّيب وتتراقص مع الرِّيح كفراشاتِ الرَّبيع , جاءت وكأنَّها الكوكب الدريُّ في الأفقِ , تلبس ثوباً مطرزاً بالألوانِ التي كانت تغنِّي من الحزنِ. وقدُّها المرهفُ المياسُ يحكي عن سيفٍ من سيوفِ البطولاتِ , وعلى أوراقِ بنانِها زَرَعَ العنمُ زهوراً وطيوراً و حبَّاًّ كانَ منكسفاً .. مختبئاً تحتَ الزخرفاتِ.

سألتها: من أنتِ أيتها الخود؟

فتبسمت قائلةً: أنا القدسُ , جدِّي كنعان , وأبي وأمي الإسلام , زارني أفضل الأنبياء وأشرفهم , أحمد عليه أفضل الصلاةِ والسلامِ , أمَّ في باحاتي , صدقاً .. كان أجمل من رأيت من البشر , وأشرف خلقاً وأعلى منزلةً من الشَّمس والقمر, عِشتُ مضطهدةً طول السنين , رغدي كان في عصر المسلمين, بيدِ الخطَّاب و صلاحِ الدين.

قلتُ: حقاً كما قيلَ عنكِ , بالجمال آية , وللحبِّ راية , وللنفس غاية , فتبسمت وتفتَّحت جنانُ التفاح الأحمرِ من خدِّها , والأقصى يغوص كلؤلؤةٍ داخل عينيها السوداوين , وما حول الأقصى يغيب بأكمله رملاً وسماءً وبيوتاً تحت الجّفنين المنسبلين.

قلتُ: وأين أهلكِ؟؟ أين غابوا؟؟

قالت: طردهم الغرابُ. أمعنتُ في نظري لوجهها, في بسمتها .. في ضحكتها , تضحكُ مكابرةً علَّها تخبِّئُ عن الناسِ احتضاراتها , تبكي ولا أحدٌ يرى دمعاتها , واستطردت: هذي المدينة الجميلة , انتهى عصرها القديم على يدِ الباطلِ وأقيمت عاصمة اليهودِ بديلاً.

قلتُ: أما استغاثَ أهلكِ بالقريب؟

قالت: نعم , ولكن لا مجيب!! نيامٌ في الوهم هِيامُ!!

قلتُ: إذاً .. أين صلاح الدِّين؟.

قالت: استُشهِد .. وما أحدٌ ورِثَ شجاعته.

ومشيتُ بجانبها كالطفلِ , تضم يداها يديّ كما تفعلُ الأمهات , بين الأبواب سرنا , وقرب البيوتِ العتيقة غنَّيْنا على موسيقى الأمطارِ. وعزفِ الأشجارِ , فأصنعُ من نفسي مظلَّةً , تجلدني الأنواءُ على وجهي .. على ذراعي .. على ظهري , أحمي فتاةً مثل اليمامة بين العينِ والبصرِ , إلى أن وصلنا إلى قبَّتين , الأولى كانت بالذَّهبِ تُكسى , والأخرى بالعاج.

قلتُ: أ هذا المسرى والمعراج؟

قالت: هُوَ .. هُوَ!

قلتُ والدمع يريد أن ينفجر: يا قُدسُ، يا مدينة تفوح أنبياء

يا أقصر الدروبِ بين الأرضِ والسماء

يا قدسُ، يا منارةَ الشرائع

يا طفلةً جميلةً محروقةَ الأصابع

حزينةٌ عيناكِ، يا مدينةَ البتول

يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول

حزينةٌ حجارةُ الشوارع

حزينةٌ مآذنُ الجوامع

يا قُدس، يا جميلةً تلتفُّ بالسواد

قالت ودمعها يهطل: حسبك جرحاً , وابقِ الجرح لذاتي.

قلتُ: كيفَ لي يا مولاتي .. !! و حبُّكِ وحبُّها يخترق كياني. ومهرها أغلى من دمي الفاني.

قالت: جرحي جرحٌ رغاب , وأهلي تنازعوا وهم أحباب.

ومضى الهمع يجري كجدولٍ من الأحزانِ.

بينما كنَّا نخطو .. ومآقينا التأمت قليلاً من البكاءِ .. طارت الغربانُ من فوقنا. والأفاعي تحاولُ اغتيالنا , سللتُ سيفي .. فاضمحلَّوا بلمح البصرِ.

قالت وهي ترتعش خوفاً: الجبنُ غدَّار , حذار منه.

قلتُ غامداً سيفي:لا عليكِ.

ومشينا .. بين أغصان الزيتونِ , نتبادلُ الأحزان.

فجأة .. انقضَّ عليَّ زُهلُولٌ أرقط , وذئب.

كنتُ آخر ما شعرت بهِ , دمع حبيبتي الذي نهل عليَّ كالدِّيمِ , ثم .. فقدتُ وعيي.

في سباتي وغيبوبتي .. حلمتُ بحبيبتي في زنزانةٍ من الأشواكِ , يعذبها نذلٌ وجلّاد , طال هذا الكابوس , كأنَّ عمره ملايينٌ من السنواتِ , آهٍ .. واحرَّ قلبي .. أسمعُ بكاءَ واحتضارَ حبيبتي .. !!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير