على أنا نقول: ليس كل غناء لغوًا، أنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه، فالنية الصالحة تجعل اللهو قربة والمزح طاعة، والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)
وننقل هنا كلمة جيدة قالها ابن حزم في المحلى ردًا على الذين يمنعون الغناء قال:"واحتجوا فقالوا: أمن الحق الغناء أم من غير الحق؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث" وقد قال الله تعالى (فماذا بعد الحق إلا الضلال) الفرقان:63
فجوابنا وبالله التوفيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمرئ ما نوى) فمن نوى باستماع الغناء عونًا على معصية الله تعالى فهو فاسق، وكذلك كل شيء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر فهو مطيع محسن، وفعله هذا من الحق. ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه كخروج الإنسان إلى بستان متنزهًا، وقعوده على باب داره متفرجًا وصبغة ثوبه لازورديًا أو أخضر أو غير ذلك، ومد ساقه وقبضها وسائر أفعاله. (المحلى)
وأما الأحاديث التي استدل بها المحرمون فكلها مثخنة بالجراح، لم يسلم منها حديث دون طعن في ثبوته أو دلالته أو فيهما معًا. قال القاضي أبوبكر بن العربي في كتابه "الأحكام": لم يصح في التحريم شيء، وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع.
وإذا سقطت أدلة التحريم بقي الغناء على الإباحة الأصلية، فكيف وقد جاءت نصوص ثابتة تفيد حل الغناء. نكتفي منها بما ورد في الصحيحين أن أبا بكر دخل على النبي في بيت عائشة وعندها جاريتان تغنيان فانتهرهما أبو بكر وقال: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي عليه السلام: (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) ولم يرد ما ينهى عن الغناء في غير العيد، وإنما المعنى أن العيد من المواطن التي يستحب فيها إظهار السرور بالغناء وغيره من اللهو البريء.
ولكن لا ننسى في ختام هذه الفتوى أن نضيف إليها قيودًا لابد من مراعاتها:
(أ) فلابد أن يكون موضوع الأغنية مما يتفق وتعاليم الإسلام وآدابه ..
فالأغنية التي تقول: "الدنيا سيجارة و كأس" مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجسًا من عمل الشيطان ويلعن شارب "الكأس" وعاصرها وبائعها وحاملها وكل من أعان فيها بعمل.
والأغنية التي تمجد صاحب "صاحبة العيون الجريئة" أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) .. ويقول رسول الله: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وعليك الثانية) وهكذا ..
(ب) ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها، فقد يكون الموضوع لا بأس به، ولا غبار عليه، ولكن طريقة المغني أو المغنية في آدائه بالتكسر في القول، وتعمد الإثارة، والقصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة، وإغراء القلوب المريضة -ينقل الأغنية من دائرة الحلال إلى دائرة الحرام من مثل ما يسمعه الناس ويطلبه المستمعون والمستمعات من الأغاني التي تصرخ بـ "ياه" و "يوه" "ييه" الخ.
ولنذكر قول الله لنساء النبي: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
(جـ) هذا إلى أن الدين حرم الغلو والإسراف في كل شيء حتى في العبادة، فما بالك بالإسراف في اللهو وشغل الوقت به ولو كان مباحًا، أن هذا دليل على فراغ القلب والعقل من الواجبات الكبيرة والأهداف العظيمة، ودليل على إهدار حقوق أخرى كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود، وما أصدق وأعمق ما قاله ابن المقفع: "ما رأيت إسرافًا إلا وبجانبه حق مضيع".
(د) على أن المستمع -بعد الحدود التي ذكرناها- يكون فقيه نفسه، فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزته، ويغريه بالفتنة ويسبح به في شطحات الخيال الحسي فعليه أن يتجنبه ويسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه ودينه وخلقه فيستريح ويريح.
ولا ريب أن هذه القيود قلما تتوافر جميعًا في أغاني هذا العصر بكمها وكيفها وموضوعها وطريقة أدائها والتصاقها بحياة أقوام بعيدين كل البعد عن الدين وأخلاقياته و مثله. فلا ينبغي للمسلم التنويه بهم، والمشاركة في نشر ذكرهم، وتوسيع نطاق تأثيرهم إذ به يتسع نطاق إفسادهم.
ولهذا كان الأولى بالمسلم الحريص على دينه أن يأخذ بالعزيمة لنفسه وأن يتقي الشبهات وينأى بنفسه عن هذا المجال الذي يصعب التخلص فيه من شائبة الحرام إلا ما ندر.
ومن أخذ بالرخصة فليتحر لنفسه وليتخير ما كان أبعد عن مظان الإثم ما استطاع، وإذا كان هذا في مجرد (السماع) فإن الأمر في (الاحتراف) بالغناء يكون أشد وأخوف، لأن الإندماج في البيئة "الفنية" كما تسمى خطر شديد على دين المسلم يندر من يخرج منه سالمًا معافى ..
وهذا في الرجل، أما المرأة فالخطر منها وعليها أشد، ولذا فرض الله تعالى عليها من التصون والتحفظ والاحتشام في لبسها ومشيتها وكلامها ما يباعد الرجال من فتنتها وما يباعدها من فتنة الرجال ويحميها من أذى الألسن وشره الأعين وطمع القلوب المريضة كما قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) وقال: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
واحتراف المرأة المسلمة للغناء يعرضها لأن تَفتن أو تُفتن ويورطها في محرمات قلما تستطيع التغلب عليها من الخلوة بالأجنبي للتلحين أو التسجيل أو التعاقد أو غيرها، ومن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها اختلاطًا لا تقره الشريعة، بل الاختلاط بالنساء المتبرجات "المتحررات" من المسلمات بالوراثة ومن غير المسلمات هو محرم أيضًا.
فتاوى معاصرة-الجزء الأول ( http://www.qaradawi.net/site/topics/static.asp?cu_no=2&lng=0&template_id=8&temp_type=42&parent_id=12)
الشيخ يوسف القرضاوي
¥