تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[رجل يتمنى أن يعيش دون ذاكرة]

ـ[ندى يزوغ]ــــــــ[29 - 06 - 2010, 06:53 م]ـ

[رجل يتمنى أن يعيش دون ذاكرة]

استنزف كل ما لديه من أوراق التفاؤل، وطاقات التأقلم والرضا بما تيسَّر له من لحظات يقتسمها مع غيره من بقية الآدميين الذين تبعثرت أوراقهم، وخاضت أيامهم ثورات ضخمة ضد ما ينبغي أن يكون، وضد ما هو موجود.

لم يعد قادراً على احتمال واقعه، أو القدرة على الابتسامة في وجوه تعوَّد أن يستقبل جبنها، وظلمها، وخذلانها، خصوصاً أولئك الذين وقف بجانبهم يوم كانت الشدة تقسم ظهورهم.

لم يعد يحتمل رؤية القصر الذي بناه هو وأصدقاؤه، وقد اعتزم آخرون على ردمه، تحت لافتات مستعارة، وأفكار سوداوية يعتقدون أنها المنقذ من الظلال أو هكذا يستسيغونها ويستنسخونها لتحقيق مآربهم، أما هو فلا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا حتى التفوه ببنت شفة، وإلا تعرَّض للإبادة.

عاد إلى نفسه وذاته التي أنهكته بتساؤلاتها، إلى متى سأظل وليمة سهلة؟!، إلى متى سأظلّ حبيس الاستسلام والتعويل على غد أفضل!، إلى متى ستظل حشائش قلبي طفيلية!؟.

اهتزت كل الكمائن بداخله كما يحلو له أن ينعتها، وفي لحظة .. ! تداخلت فيها كل المشاعر، ومحن الصراعات الداخلية، قرَّر الهجرة بعيداً عن وطن أعطاه الكثير، وناضل من أجله، وقدَّم له كل ما كان يملكه من طاقات، ولم يبخل قط بجهده، وصحته، وساعات طوال كانت ملكاً لزوجته وأطفاله، فكان يعصف أفكاره يبتغي الخلاص لأهله من خيوط الأخطبوط التي كانت تلفّ حول أعناقهم، وكان دوماً مناضلاً على جبهتين، فكان يحسب ألف حساب للجبهة التي من المفروض أن تكون سنداً له، ويده اليمنى.

كان يقرع جميع أبواب الاحتمالات، لئلا يكون الخطأ الأول هو الأخير، كما أنه كان دوماً يردِّد: "نحن نحتاج للفرح، كي نعبر حقول ألغامنا وندافع عن جماليات عيشنا".

يعشق "البيلسان" و"الزنزلخت" ويحسّ أن قلمه مشرطاً مثل الأوامر التي كان يعطيها للعاملين تحت إمرته أيام كان يعمل بمنصب عال. إذْ كان دوماً يقول: "أن الشخصية ليست ملامحاً، ولا الجسد جسداً، ولا الحب حباً، ولا الكره كرهاً".

كان يحلم أن يكون "سيناريست" (كاتباً مسرحياً)، أو مساعد مخرج، يوضِّح في الميدان قرب وابتعاد الكاميرا وحكاياتها الدائرية، وكان يحزن أحياناً لأنه يعتقد أنه كالحمار الوحشي الذي يتوقَّع الزلازل قبل وقوعها بدقائق، ويشم رائحة حريق الفصول القادمة قبل وقوعها.

حلمه في الحب أن يرفع أحباءه إلى السماء، وللرقي، ويردِّد دوماً: "ما قيمة الطيران حين نحلِّق وحدنا في سماء كئيبة حزينة! ".

وفي لحظات أخرى شاحبة يعتقد نفسه لعيناً، وأن عالمه أشدَّ لعنة، ألأنه يعرف كثيراً في علوم الدواخل والدرامات؟!. فكل الناس عنده قصائد وإلياذة "هوميروس"، فتبنى الأساطير الإغريقية وانسجم مع أبطالها وآلهتها، أما رهانات نصوصها فتتوغل فيه حد الوجع، والانصهار، مغلقاً عليه أحياناً كهفه، فلا يودّ الخروج منه، إلا وقد اكتنزت روحه تعبئة كافية من الطاقة، فلا تقبل شحناً إضافياً، ويعاود كرة الشحن من حين لآخر عندما ينخفض مستوى الطاقة في روحه.

لقد باشر كل الناس عن قرب، وبعمق، فكان يرحل عند المنعطفات، كما أنه تجوّل كثيراً بين البلدان، وعاش فصول حضارات مختلفة، وخضع لأحكام قدرية، كان يخرج من بعضها بحصيلة يفوح عبقها الحكمة، وتناول كؤوس الإنسانية مع أناس تركوا بقوة بصمات في داخله، إلا أن التجربة الغجرية تبقى جذورها دفينة لا تغادره، بكل ملامح الغجر، وضوابط حياتهم، وجمالية الصور التعبيرية لديهم، حتى رقصهم ما زال متأبطاً بذراع مخيّلته، لا تفارقه حتى عندما يقرِّر الخلود إلى النوم، إذْ تشاركه في ذكرياته السلالم التي يتسلقها والفراشات الملوَّنة بقوس قزح.

لا يهنأ من أغلال ذكرياته مع الغجر، إلا وقد استحضر رحلاته عبر البحار بالسفن وفي آلاف الطرقات التي قطعها عبر القطارات، كل المحطات التي توقف عندها والتي أبرم معها اتفاقية لا شروط فيها، فقط هي شاهد من شواهد كثيرة، لذلك حصلت معه حالات الشبع مرات ومرات، ولهذا يغمره الحزن أحياناً على حين غفلة، لأنه يتذكَّر انكسارات الحياة، وذبول الفرح في عمق ارتعاشاته، خصوصاً عندما يتمنّى الرجوع إلى عالم الطفولة، عالم "اللا أمان"، والخوف، والبراءة، لعل الإحساس يعاوده بفطرة الأشياء.

لم تسلم طفولته من أذى تناقض عصره، فقد عرف يقظة مبكِّرة، وصحوة عرَّت الأشياء أمامه قبل أوانها، فاغتصبت بذلك لحظات طفولته، أثناء وقوفه عند أول امتحان له في الحياة، واستنتج مفهوم وكنه الطبقية، ومعنى أن يقتات البشر من الفتات في قمامات الأغنياء، وبطش الكلاب إذْ يمنعها من الاقتراب منها.

ألهذا السبب اعتمر لأيام طوال وهو يقرأ ويتأمَّل كل اليساريين بالعالم مثل الثوري الكوبي "تشي كيفارا" ألهذا عشق "لوركا"، و"توم هانكس"، و العازف التركي"مورات"؟!.

وأكثر ما يعتب على نفسه تسرعها، وأحياناً "بوهمية" تفكيره، التي تجعله ضحية إحساسه بالاختلاف، تلك "البوهيمية" التي يتنكر لها الكثيرون، لأنهم يجهلون جمالها، ولذة العيش بين أحضانها، فيتبناها هو عن طيب خاطر.

ندى يزوغ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير