أليست الحقائق تنص على أن الحداثة حالة فكرية تتلبس واقعا ما بشتى وجوهه وليست صيغة ذات أطر محدودة؟ أوليست الحداثة قد أفرزت عبر تاريخها المؤرخ بالثورة الفرنسية إبان القرن التاسع عشر جمعا من القراءات المفيدة لأنساقنا الثقافية والتي أسهمت بشكل فاعل بإعادة النظر إلى ذلك الموروث ومحاولة فهمه بعيدا عن التأثيرات أو التأويلات التي شكلت عبر تاريخ طويل نسقا جديدا يقف متوازيا مع تلك التحولات والمتغيرات الذي لم يشأ لنا أن نتقبله أو نتناوله إلا عبر فهم مقصور محيد يسمى الخارج عنه عميلا أو متآمرا أو خائنا؟
إن قراءة تتم بعيدة عن تلك القراءة المعهودة أو " المنزلة " لايجعل منا سوى حفنة من المدعين الذين لايملكون خيارا سوى أن ينتهجوا منهج التأويل الأوحد.
إنني هنا لا أقر نبذ الدين أو إخضاعه تحت طائلة المساءلة، فلا سبيل للحداثيين بإقناعنا بذلك كما كان يفعله طه حسين مع طلابه حين كان يطلب منهم أثناء محاضراته أن ينقدوا نص القرآن نقدا أدبيا، ويظهروا بحذقهم وبراعتهم قدر مافيه من جمال ومارافقه من " خلل "!!!
إلا أني أدعو إلى شيئين اثنين:
ألا ينظر إلى الحداثة عبر رموزها القائمة اليوم وكأنهم هم الحداثة حقا، أو كأن الحداثة مختزلة في أشخاصهم، بل إن الحداثة حالة فكرية يلزم منا أن ننظر إليها وكأنها جزء من واقعنا ومجتمعنا وتسييرها حسب مايمليه علينا الضمير وما تستلزمه شرائط العلم، لا سيما إذا علمنا أن للحداثة مفاهيم لا تتفق بحال من الأحوال مع بعضها ولا تكاد أن تلتقي في معظمها، فالحداثة الفرنسية ليست هي الحداثة الأمريكية الحديثة، بل إن الحداثة الفرنسية الأولى ليست هي الحداثة التي نعرفها اليوم، وهذا مايجعل الحداثيين في نزوع دائم إلى البحث عن تحديد جديد لمفهوم الحداثة حسب ماتمليه عليهم مستجدات الواقع، وهو مانجده عند أدونيس في تحديده لمفهوم الحداثة، أو لنقل توصيفها بعشرات من الأوصاف قد تصل في كثير منها إلى حد التناقض.
الأمر الآخر الذي أحب أن أشير إليه هنا متعلق أيضا بهذه الرموز الحداثية القائمة اليوم والذي أشرتم أنتم إلى أبرزها في العالم العربي، وهو أن باستطاعتنا أن نفيد من التجربة الحداثية في استقراءاتها لتاريخ الأمة دون شطط أو تحامل.
وأضرب على هذا بمثل أختم به تعليقي هذا:
تجربة طه حسين في تصويره للشخصية التاريخية الأثيرة في نفوسنا، أعني شخصية هارون الرشيد الذي رأى فيها شخصية أقرب ماتكون إلى العبث والتهتك منها إلى الهمة والجد، هذا بعد طول مطالعة لكتب التراجم والتاريخ.
وتلك نتيجة قد لا يرضى عنها الكثيرون لا لأنها قد نالت من الشخصية الأسطورية الفذة في أعيننا، بل لأن من قيمها هو طه حسين العميل المشكوك بمقاصده وغاياته!! لكن ماذا لو أننا عرفنا أن الشيخ علي الطنطاوي قد خرج هو الآخر بذات النتيجة في تحليله لهارون الرشيد أو بنتيجة قريبة منها!!
الموضوع مثير وهام ولعل الأخوة الأفاضل يفيدوننا بما فتح الله عليهم من تقييم للحداثة في مجتمعاتنا العربية ....
مع بالغ التقدير لك أخي زكريا
ـ[رؤبة بن العجاج]ــــــــ[09 - 12 - 2006, 02:39 م]ـ
موضوعٌ قيّمٌ جوهريُّ .. جزا الله كتابه كل خيرٍ ..
أمّا بالنسبة للحداثة .. (و أنا عند أصحابها أبلى من أطلال الجاهلية .. )
فهي كما هو معلوم انتشرت في عالمنا العربي والإسلامي متزامنةً مع الأفكار
الماركسية والإلحادية و ما دعاتها إلا أحد عبيد تلك الخرافات ..
هي تريد في زعمها التجديد و الخروج عن كل شيئٍ حتى لربما ستخرج من
نفسها هي .. إلى فكرٍ هلاميٍّ جديدٍ الله أعلم به ..
و لو نظرت في مؤلفات ألائك الحداثيين ..
سواءاً شعريّةً كانت أو نثريّةً ..
لرأيت العجب العجاب ..
والتعدّي على الدين و الأخلاق .. من باب الترقّي على زعمهم وهو في الأصل ..
التردّي في دركات الجحيم ..
البعض منهم يتستّر بالتراث العربي و بأصالة الماضي و تطور المستقبل ..
ويقفز من حافّةٍ لحافّةٍ ..
لكن مع هذا يتكشّف للناس عند النظر في كتاباته و تدويناته ..
ارى الموضوع كبيراً جدّاً ... و هناك من الأخوة من لديه النفع العميم
لذا أترك المجال للأخوة الأعضاء للتفصيل و التحليل ..