أبو العلاء: (في أسى) سامحك الله يا أبا يوسف!
حورفت في كل مطلوب هممت به = حتى زهدت فما خليت والزهدا
أبو يوسف: أي زهد هذا؟ إنك لتحرم ما أحل الله من الطيبات.
أبو العلاء: ما أنا برسول فأحلل وأحرم، ولكني زهدت في ذلك رحمة بالحيوان.
أبو يوسف: معاذ الله .. هو أحكم وأرحم سبحانه، غير أني مخلوق ضعيف وتلك رقة أجدها في نفسي لا أملك لها دفعاً .. فيجري ذلك في شعري كما يجري النسيب والبكاء في أشعار المتيمين من الشعراء، فإن يكن ذلك ذنباً .. فالله أسأل أن يغفره لي، فما أنا بمعصوم وإن لي لذنوباً جمة لا يعلمها الناس ويعلمها الله وحده.
أبو يوسف: بل جريت في ذلك على مذهب البراهمة واتبعت دينهم.
أبو العلاء: الله أعلم بسريرتي منك ومن نفسي ..
ليفعل الدهر ما يهم به = إن ظنوني بخالقي حسنه
لا تياس النفس من تفضله = ولو أقامت في النار ألف سنة
(يقرع الباب فينهض ابن أبي هاشم ثم يعود فيسار أبا العلاء بحديث)
أبو العلاء: لا يكن هذا سراً على أبي يوسف فيظن ظناً وبعض الظن إثم .. هذه جارتك يا أبا يوسف.
أبو يوسف: جارتي؟
أبو العلاء: نعم .. أم عيسى الدمشقية.
أبو يوسف: التي تعمل في الماخور؟
أبو العلاء: نعم.
أبو يوسف: وتريد أن تدخلها عندك؟
أبو العلاء: إنما تعمل خادماً فيه لتعول نفسها وعيالها.
أبو يوسف: ما يدريك؟ ائذن لي انصرف.
أبو العلاء: لعلها جاءت لتشكو لي حالها فلا عليك أن تبقى.
أبو يوسف: كلا إني لا أجالس النساء!
أبو العلاء: سامحك الله، وهل تراني ممن يجالسهن؟
أبو يوسف: ما ينبغي ذلك لمن حج مثلي واعتمر .. ائذن لي انصرف.
أبو العلاء: كما تشاء .. أشكرك على زيارتك.
أبو يوسف: لله الشكر! (يخرج).
ابن أبي هاشم: إلى حيث القت! (يأذن لأم عيسى فتدخل).
أم عيسى: أصلحك الله يا أبا العلاء يا سيد الناس!
أبو العلاء: مرحباً بأم عيسى .. لعلك بخير.
أم عيسى: أهذا أبو يوسف القزويني الذي قام من عندك؟
أبو العلاء: نعم .. جارك يا أم عيسى.
أم عيسى: بئس الجار هو .. يسمع عيالي يتضاغون جوعاً بعد وفاة أبيهم فما حدثته نفسه بأن يواسينا يوماً قط. آه يا أبا العلاء لو كان في قلوب هؤلاء الناس رحمة .. لو عطفوا علينا مثلك أفكنت اضطر إلى الخدمة في ماخور هذا العلج الرومي؟ حسبهم الله!
أبو العلاء: أكتب عندك يا ابن أبي هاشم.
ابن أبي هاشم: (يستعد للكتابة) نعم يا سيدي.
أبو العلاء:
توهمت يا مغرور إن دين = على يمين الله مالك دين
تسير إلى البيت الحرام تنسكاً = ويشكوك جار بائس وخدين
أم عيسى: لعنة الله عليهم جميعاً .. لعنة الله على هذا البلد!
ابو العلاء: مهلاً يا أم عيسى لا تلعني بلداً يحبنا ونحبه.
أم عيسى: حاشاك أنت وحدك يا أبا العلاء (اضحوا جميعاً يزورون عني ويظنون بي الظنون).
أبو العلاء: هوني عليك فالله يعلم أنك محمولة على ذلك لإعاشة عيالك، ولعل الله يجعل لك بعد عسر يسرا .. كم تحتاجين اليوم؟
أم عيسى: كلا يا سيدي، ما لهذا جئت اليوم (تنشج باكية).
أبو العلاء: تبكين يا أم عيسى .. ما خطبك؟
أم عيسى: هذا العلج الرومي ..
أبو العلاء: ما باله؟
أم عيسى: أه يا سيدي لا أدري كيف أقولها لك. ما ينبغي لمثلك أن يسمعها!
أبو العلاء: بل حدثيني لعلي أستطيع أن أضع لك شيئاً .. ما بال الرومي؟
أم عيسى: أخذ يراودني عن نفسي ..
ابن أبي هاشم: ويل للكلب!
أبو العلاء: أعرضي عنه فلن يقدر على إرغامك .. أنه فيما أعلم شيخ كبير.
أم عيسى: أنه يا سيدي لا يريدني لنفسه بل للخراب الذين يترددون على ماخوره.
أبو العلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله.
أم عيسى: وقد هددني بالطرد إن لم أفعل، فماذا أصنع يا أبا العلاء؟
أبو العلاء: استعصمي واصبري حتى يجعل الله لك مخرجاً.
أم عيسى: هل أترك عيالي يموتون من جوع؟
أبو العلاء: (يتنهد) ليت هؤلاء المصلين يعلمون؟ ليتك تصيحين فيهم يوماً ليروا كيف تنهك الحرمات بجوار جامعهم لعلهم ينتبهون؟
أم عيسى: لقد نبهت مني غافلة! والله لأعلننها اليوم في صلاة الجمعة!
أبو العلاء: لكن يا أم عيسى ..
أم عيسى: (تنهض) دعني يا سيدي .. ساري إن كان فيهم بقية من نخوة؟
ابن أبي هاشم: حذار أن تخبري أحداً بأن الشيخ هو الذي اقترح عليك.
أبو العلاء: أجل فإنهم يتجنون علي كما تعلمين.
¥