وهنا متعك الله بالعافية , وبعد أن أنتهى القاضي من صياغة قصيدته وأتم وصف الشمعة مرة كالحبيبة ومرة كنفسه , ثم قارن بين ما هو فيه من عدم تقدير واعتراف بفضله وعلمه , رأى أنه لا سبيل لنيل مراده وبلوغ مرماه إلا بممارسة بعض نفاق الشعراء , ولا طريق لبلوغ هدفه إلا بمدح الولاة والأمراء (20) , وبدى لي أنه بعد أن فرغ من قصيدته إلى حيث وقفنا بآخر بيت منها سأل نفسه: وما الفائدة من تلك القصيدة إن لم تأتي بالخير , ثم أكمل ليلته مستلقياً يفكر في أمره وأمر قصيدته , وما أن أشرقت شمس صباحه إلا وبادر إلى ريشته ودواته ليكمل القصيدة ولكن بمنحى آخر وعلى نفس الوزن والقافية فلقد خرج من حالة وصف الشمعة - والتي أمتعنا بها - إلى المديح (21) الذي نزهت سمعك - لمكانتك مني - عن أن أكمل رسالتي بالتعليق على مديحه (22).
ثم لعل الله أن يقدر لي معك لقاءاً آخر.
الهوامش
(1) - هو القاضي ناصح الدين أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني, ولد في أرجان وطلب العلم بأصبهان وكرمان, وتولى منصب نائب قاضي قضاة خوزستان, ثم تولى القضاء بأرجان. ولد سنة أربع مائة وستون وتوفي عام أربع وأربعين وخمس مائة. وصفه الصفدي في (الوافي بالوفيات) بأنه أحد أفاضل الزمان , لطيف العبارة غواصاً على المعاني , إذا ظفر بالمعنى لا يدع فيه لمن بعده فضلاً. وكان قاضي القضاة القزويني يعظمه ويرى أنه من مفاخر العجم واختار شعره وسماه (الشذر الجاني من شعر الأرجاني). وبقراءة شعره ستجده عذب الألفاظ سلس المعاني سهل العبارة وديوانه ملئ بقصائد المدح التي تتخللها أبيات سخرية مبطنة , يسخر فيها من عدم تقدير الناس لعلمه ومن عدم وجود الخل الوفي , سمى الذهبي شاعرنا في العبر بـ (حامل لواء الشعر بالمشرق). قالوا أن الذي جُمع من شعره لا يكون العشر مما كتبه وقيل أنه كان له في كل يوم ثمانية أبيات ينظمها على الدوام , وبحسبة بسيطة لو أنه ابتدأ نظم الشعر في سن الثلاثين , وهو قد تعدى الثمانين فلو كانوا جمعوا كل شعره لصار لدينا مايقارب 150 ألف بيت ولكن الموجود بديوانه ما يقارب الثلاثة عشر ألف بيت أي بالفعل يوازي العشر.
ومن الطرائف التي اكتشفتها أن أمير الشعراء أحمد شوقي قد اقتبس عدة أبيات من الأرجاني ضمنها قصيدته (مضناك جفاه) والتي صاغها على نفس وزن وقافية قصيدة الأرجاني.
(2) - أرجان مدينة بين فارس والأهواز ومن ينسب إليها يقال له الأرّجاني (بتشديد وتثقيل الراء) أو الرجاني
(3) - يبدو أن شاعرنا كان مغرماً بنظم الشعر عن الشموع فله أبيات كثيرة يذكر فيها الشمع منها:
تَدري باللهِ ما يَقولُ الشّمْعُ ... للنّارِ وقد علاه منها اللّمْعُ
الطّاعةُ فيّ للهوَى والسّمْعُ ... ما دام لك اللّمْعُ فمنّي الدَّمْع
ومنها
قد زال ظُلمةُ ذاكَ اللّيلِ عن بَصَري ... بشَيْبِ رأسٍ كرأْسِ الشَّمْعِ مُشْتَعِل
ومنها
وكنتُ والعِشْقَ مثْلَ الشّمعِ مُعتلِقاً ... بالنّارِ أَبقيْتُه جَهلاً فأفناني
(4) - ومثال على عذوبة ألفاظه ورقة معانيه قوله:
ولا تلم المتيم في هواه ... فلوم العاشقين من الخطايا
(5) - كان القاضي قد طلب خيمة من الوزير أنو شروان بن خالد القاشاني , فلم يكن لدى الوزير خياماً بهذا الوقت فبعث إليه صرة فيها خمس مائة دينار وقال إشتر بها خيمة , فقال الأرجاني:
لله در ابن خالد رجلاً ... أحيا لنا الجود بعدما ذهبا
سألته خيمة ألوذ بها ... فجاد لي ملئ خيمة ذهبا
(6) - هل كان القاضي ناصح الدين ينعي نفسه وعمره بتلك القصيدة؟ فلقد ذكر بأخرى:
فرجَعْتُ لمّا شِبْتُ أسبَقَ دَمعةً ... من شَمعةٍ عندَ اشتِعالِ الرّاس
(7) - كانت الشموع تستهوي شاعرنا وتثير بنفسه كثيراً من الشجن فهو يقول عن الشمعة بقصيدة أخرى:
شمعةٌ تَحسدُ الشّموعُ سناها ... ولهذا دموعُها الدَّهرَ تَتْرى
(8) - شبه الشاعر نفسه بالشمعة في بيتين له حيث قال:
لا مُسْعِدَ لي إذا اعْتَراني الأَرَقُ ... في لَيْليَ غيرُ شَمعةٍ تَأتلِقُ
حالي أبداً وحالُها يَتّفِقُ ... الجِسمُ يذوبُ والحشا يَحْتَرِق
(9) - كان القاضي ناصح الدين يعتقد أنه لم يوفى حقه في المناصب التي تولاها على الرغم من علمه وفضله وفقهه وأدبه, فحين آلت إليه نيابة القضاء بخوزستان قال عن نفسه:
ومن النوائب أنني ... في مثل هذا الشغل نائب
ومن العجائب أن لي ... صبراً على هذي العجائب
¥