تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

و قد بينا قبل أن من أداة هذا الشاعر العظيم ما أودعه الله فيه من الحس المرهف , وما وهبه من العاطفة الملتهبة المتوقدة التي لا يخبو لها ضرام , وراثة كان ذلك من جدته , أو فطرة فطره الله عليها غير موروثة. وكان هذا الرجل في أول أمره مطالباً بثأر قد نشئ عليه , وأخذ به من صغره , حتى شغل فكره و عقله , وتدفق في بنيانه كله تدفق الدم , و صار أصلاً من الصول التي قامت عليها كل حالته النفسية = على ما ذكرناه أولاً , و تدرجنا في بيانه إلى عهد اتصاله بسيف الدولة = وقد بلغ من العمر أربعاً وثلاثين سنة , و هي السن التي تستحكم فيها الأصول , و تستقر المذاهب , و يقف الرجل عندها لا يملك في تبديل أمره حولاً ولا قوة إلا أن يشاء الله , و خاصة من كل مثل المتنبي قد عركته الأيام من صغره , و تحاملت عليه و رمت به تنورها حتى استوى على صورة بعينها , واستمر مريره على ما فيه القوة المستحصدة و المنة الدائبة الفورة و النزاع , لا تستقر ولا تهدأ ولا تطمئن.

هذا , ....... وقد استوقفنا , ونحن نتتبع شعر الرجل على طريقتنا و مذهبنا , الفرق الكبير الكائن بين شعره الأول , وشعر الذي قاله في حضرة سيف الدولة , وتدبرنا الأسباب عل ما بيناه قبل , فلم يستو عندنا أن يكون ذلك من أجل ما ذكرناه قبل وحسب , فعدنا نجدد الرأي لذلك , ونقرأ ما بين كلمات الرجل من المعاني , و نستنبط من روائع حكمه وبلاغته ما يهدينا إلى السبب الأكبر في هذا التجويد الفذّ الذي غلب به الرجل على شعراء العربية , فاستروحنا في شعر الرجل نفحة من نفحات "المرأة" التي تكون من وراء القلب تصنع للشاعر المبدع بيانه , و تتخذ من فنها النسوي مادة تهيئها لفن صاحبها و عبقريته و نبوغه. فأتممنا الأمر على ذلك , ورجعنا إلى شعر أبي الطيب وما وقفنا عليه من أسرار نفسه , وتمثلنا "المرأة" بينهما وهي دائبة تصنع له بيانه و تهيئ له فنه , فاستوى الأمر على ذلك. وطلبنا الدليل , فدلنا على المرأة التي سكنت قلب أبي الطيب وهو في ظل سيف الدولة و جعلته حكيم الشعراء و شاعر الحكماء.

كان صاحب الحكمة أبو الطيب يصنع حكمته بالتدبر في معرفة نفسه , و استبطان أسرارها و إدراكها , فلما جاءته "المرأة" و أرادت كبرياءه على الخضوع لها و التصرف بأمرها , وقعت نفس هذه المرأة بأسرارها و أحداثها في نظرات أبي الطيب النافذة المتولجة إلى ما وراء الواقع و الحس الملموس , و بين نفسه بأحداثها و أسرارها و ما انطوت عليه و ما تجللت به , ولما كانت نفس المرأة المحبوبة هي تمام نفس الرجل المحب و تكملتها , كانت دراسة الحكيم المحب لنفسه المكملة التامة بالمرأة المحبوبة , إنما هي دراسة للكون له , فإن العاشق لا يرى الدنيا بأسرارها إلا بعيني من يعشق , وهي على ذلك الدنيا المترامية , بعد أن كانت قبل عشقه محصورة في دائرتها من نفسه الناقصة غير التامة. و الحب القوي النافذ الذي يتملك حواس المحب و يغلب عليها , هو بطبيعته امتداد بهذه الحواس إلى غايات بعيدة لم تكن تصل إليها قبل غلبته على القلب و النفس و الفكر. فلهذا حين أحب أبو الطيب = الرجل الثائر المتكبر الشاعر الحكيم البياني الفكر و اللسان = كان امتداد نفسه و تراميها إلى غايات بعينها من الرجولة و الثورة و الكبرياء و الحكمة و الفكر , ولم يستطيع أن يكون بعد أن غلب الحب قلبه و تفاسح به , شاعراً غزلاً رقيق البيان. و هذا هو السر عندنا في ضعف مادة الغزل عند أبي الطيب , و قوة مادة الحكمة وما إليها , مما هو من طبيعته المتأصلة فيه على ما فصلناه في أثناء كلامنا. وليس يصح عندنا أن لا يكون أبو الطيب عاشقاً صبَّاً متدَّلهاً , ما لم نجد في شعره غزلاً ولا أنيناً و حنيناً و بكاءً.

و الآن , و بعد هذه المقدمة , نحاول أن نعين لك "المرأة" التي أحبها أو الطيب على ما يتفق لنا , إذ كان ترتيب هذا الموضع من الكلام مما يستدعي النظر في أكثر شعر أبي الطيب و تقليبه على المذهب الذي اتخذناه , فيخرج الأمر من حدّه ولا تتسع له هذه الورقات.

لما ماتت أخت سيف الدولة الصغرى , وقف أبو الطيب يعزيه و يرثيها , و يسليه ببقاء أخته الكبرى, وذلك في يوم الأربعاء للنصف الثاني من شهر رمضان سنة 344هـ , وبعد سبع سنوات من مقامه في حضرة سيف الدولة , فأنشده قصيدته التي أولها:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير