إن يكن صبرُ الرزيئة فضلا .... تكن الأفضلَ الأعزّ الأجلاّ
و طفق يمدح سيف الدولة بمناقبه مما يصلح لهذا الموضع من العزاء , إلى أن قال:
أينَ ذي الرِّقّةُ التي لَكَ في الحَرْ ...... بِ إذا استُكرِهَ الحَديدُ وَصَلاّ
أينَ خَلّفْتَهَا غَداةَ لَقِيتَ الـ ........ ـرّومَ وَالهَامُ بالصّوارِمِ تُفْلَى
قاسَمَتْكَ المَنُونُ شَخْصَينِ جوْراً ..... جَعَلَ القِسْمُ نَفْسَهُ فيهِ عَدْلا
فإذا قِسْتَ ما أخَذْنَ بمَا غَا .......... دَرْنَ سرّى عَنِ الفُؤادِ وَسَلّى
وَتَيَقّنْتَ أنّ حَظّكَ أوْفَى .......... وَتَبَيّنْتَ أنّ جَدّكَ أعْلَى
فأبو الطيب يطلب من سيف الدولة أن يقيس أخته الصغرى التي ماتت , إلى أخته الكبرى التي بقيت , فإذا فعل ذلك كان يلوى له و تسريه للهم عن قلبه. ولا ندري كيف يتفق أن يخطر لشاعر يرثي امرأة محجبة ماتت , أن يذكر أخرى = و تكون أختها = و يعزي أخاها بهذا العزاء الغريب؟ ثم يزيد فيقول له: إنك إذا فعلت ذلك الذي دللتك عليه "تيقنت" أن حظك في بقاء هذه الكبرى أوفى من حظ الموت في أخذ الصغرى؟ و كيف يُيقِّن أبو الطيب سيف الدولة من حسن حظه ببقاء الكبرى , إلا إذا كان هو على يقين من ذلك؟ وكيف يكون على يقين من ذلك , إلا وهو يعرفها معرفة تفضي به إلى هذا اليقين؟
ثم مضى أبو الطيب في القصيدة كلها يمدح سيف الدولة , ولم يتعرض لهذه الفتاة أخته الصغرى إلا في موضع آخر , إذ يقول:
خِطْبَةٌ للحِمامِ لَيسَ لهَا رَدٌّ ........ وَإنْ كانَتِ المُسمّاةَ ثُكْلا
وَإذا لم تَجِدْ مِنَ النّاسِ كُفأً ........... ذاتُ خِدْرٍ أرَادَتِ المَوْتَ بَعلا
فالعجب أن يكون ذلك عزاء ..... , فإن أبا الطيب قد قدّم الكبرى في المنزلة , فكان أولى إذن أن تموت الكبرى , إذ هي ولاشك عند أبي الطيب أفضل من هذه الصغرى التي لم من الناس كفئاً يكون لها زوجاً , فاختارت الموت بعلاً لها!! و هذا التناقض يدلنا على أن الرجل كانت قد اقترنت في عينه صورة الكبرى بصورة الصغرى , فاضطرب قوله ولم يمض على سنن ونهج , وذلك لاضطراب نفسه الذي أظهر ما في قلبه و كسف عنه تدفقه حين ذكر هذه الكبرى فقال فيها البيتين: ((فإذا قست ......... الخ)).
قلما ماتت الكبرى هذه التي ذكرها هنا = وهي خولة أخت سيف الدولة , في سنة 352هـ , أي بعد ذلك بسنوات ثمان , وكان أبو الطيب يومئذ بالكوفة , فورد عليه خبرها , فكتب إلى سيف الدولة قصيدة فيها (44) بيتاً , منها واحد وثلاثون في ذكر خولة هذه , و ستة أبيات في ذكر الدنيا و نكدها , ولم يذكر سيف الدولة إلا في سبعة أبيات منها. هذا مع أن القصيدة التي رثى بها الصغرى , لم يذكر فيها الصغرى مفردة , إلا في بيتين هم: (خطبة للحمام ...... ) , وذكر الكبرى ومعها الصغرى في ثلاثة أبيات هي (قاسمتك المنون ....... ) , وجعل بقية القصيدة , وعدتها (42) بيتاً , في مدح سيف الدولة , إلا قليلاً في الحكمة والحياة. أليس هذا عجيباً!
كان الفرق بين القصيدتين بيناً واضحاً لا خفاء فيه , وكانت الثانية في رثاء "خولة" عاطفة قد أخذها الحزن و غلبها البكاء .... يقول أبو الطيب , و افتتحها بخطاب خولة:
يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبِ ........ كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
أُجِلُّ قَدْرَكِ أنْ تُسْمَيْ مُؤبَّنَةً ........... وَمَنْ يَصِفْكِ فَقد سَمّاكِ للعَرَبِ
لا يَمْلِكُ الطّرِبُ المَحزُونُ مَنطِقَه .......... وَدَمْعَهُ وَهُمَا في قَبضَةِ الطّرَبِ
غدَرْتَ يا مَوْتُ كم أفنَيتَ من عدَدٍ .......... بمَنْ أصَبْتَ وكم أسكَتَّ من لجَبِ
وكم صَحِبْتَ أخَاهَا في مُنَازَلَةٍ ............ وكم سألتَ فلَمْ يَبخَلْ وَلم تَخِبِ
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ ............ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً ............. شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
تَعَثّرَتْ بهِ في الأفْوَاهِ ألْسُنُهَا ............. وَالبُرْدُ في الطُّرْقِ وَالأقلامُ في الكتبِ
كأنّ "خولة" لم تَمْلأ مَوَاكِبُهَا ................ دِيَارَ بَكْرٍ وَلم تَخْلَعْ ولم تَهَبِ
وَلم تَرُدّ حَيَاةً بَعْدَ تَوْلِيَةٍ .............. وَلم تُغِثْ داعِياً بالوَيلِ وَالحَرَبِ
¥