فكان أول ما لقي كافوراً لقيه بالبيت الذي عدّه الأدباء و النقاد من سوء أدب المتنبي و جفائه و غلظته. وليس الأمر على ذلك , فإن الرجل لم يكن جافياً ولا غليظاً ولا سيء َ الأدب , ولا ضعيف البيان , ولكنه كان كما حدَّثناك مرهق الحس , تغلبه العاطفة على أمره فلا يملك لبيانه تصريفاً , بل تُصَرِّفُ عاطفته هذا البيان كما شاءت , والعاطفة لا تعرف أميراً ولا كبيراً , ولا تفرّق بين لقاء الملوك و لقاء الصعاليك , فلذلك رمى في وجه كافور بهذا , في شهر جمادى الآخرة سنة 346هـ:
كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا ........... وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا
تَمَنّيْتَهَا لمّا تَمَنّيْتَ أنْ تَرَى ................. صَديقاً فأعْيَا أوْ عَدُواً مُداجِيَا
ثم يمضي أبو الطيب على طريقته حتى يرقّ رقّةً , لو أنت قلّبت ديوانه لم تجد لها شبيهاً ولا مثيلاً , وذلك قوله في خطاب قلبه , ذلك القلب الذي حطم فيه فراق "خولة" و هدّ بنيان رجولته و قوّته:
(حَبَبْتُكَ قَلْبي قَبلَ حُبّكَ من نأى .............. وَقد كانَ غَدّاراً فكُنْ أنتَ وَافِيَا)
(وَأعْلَمُ أنّ البَينَ يُشكيكَ بَعْدَهُ ............... فَلَسْتَ فُؤادي إنْ رَأيْتُكَ شَاكِيَا)
(فإنّ دُمُوعَ العَينِ غُدْرٌ بِرَبّهَا .............. إذا كُنّ إثْرَ الغَادِرِين جَوَارِيَا)
إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى .......... فَلا الحَمدُ مكسوباً وَلا المالُ باقِيا
وَللنّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلّ على الفَتى ................. أكانَ سَخاءً ما أتَى أمْ تَسَاخِيَا
(أقِلَّ اشتِياقاً أيّهَا القَلْبُ رُبّمَا .............. رَأيْتُكَ تُصْفي الوُدّ من ليسَ صافيَا)
(خُلِقْتُ ألُوفاً لَوْ رَجعتُ إلى الصّبَى ........... لَفارَقتُ شَيبي مُوجَعَ القلبِ باكِيَا)
أيُّ رِقَّةٍ , و أيُّ توجًّعٍ , وأيُّ جَمَال!!
فاقرأ الآن الأبيات و تدبرها , و أنظر في خطابه قلبه ــ على غير عادته ــ خطاباً رقيقاً متنهداً ذا زفرات, و أنظر اضطراب أمره بين قلبه و فكره , وبين عاطفته ورجولته , يقول لقلبه: ((لست فؤادي إن رأيتك شاكياً)) , ثم يعود فيقول: ((خلقت ألوفاً ........ )) فليس للأبيات حبه لسيف الدولة و حسب , بل فيه نفحات من لوعة الحبّ الذي يستولي على القلب: حب المرأة التي يهجرها الرجل وهو يعلم يقيناً أن لا يهجرها , وإنما يُهاجر قلبه الذي بين جنبيه و يعانده ويراغمه.
هذا , وقد ظهر نفس هذا الأثر في كثير من شعر المتنبي , وهو في جوار كافور , بعد فراقه سيف الدولة. ظهر في حكمته ظهوراً بيناً , وذلك كقوله , وذلك في رمضان سنة 346هـ:
لَيتَ الحَوَادِثَ باعَتني الذي أخذَتْ ........... مني بحِلمي الذي أعطَتْ وَتَجرِيبي
فَمَا الحَداثَةُ من حِلْمٍ بمَانِعَةٍ ................ قد يُوجَدُ الحِلمُ في الشبّانِ وَالشِّيبِ
وهذا القول ليس من مذهب المتنبي في كلامه الأول إلى فراقه سيف الدولة. و مثل ذلك قوله , في ذي الحجة سنة 346هـ:
أوَدُّ مِنَ الأيّامِ مَا لا تَوَدُّهُ ............... وَأشكُو إلَيهَا بَيْنَنَا وَهْيَ جُنْدُهُ
(باعِدْنَ حِبّاً يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ ........... فكَيفَ بحِبٍّ يَجْتَمِعنَ وَصَدُّهُ!؟)
(أبَى خُلُقُ الدّنْيَا حَبِيباً تُديمُهُ ................ فَمَا طَلَبي مِنهَا حَبيباً تَرُدّهُ)
ثم تلفّت المتنبي إلى ما كان من فراقه "خولة" ومهاجرتها مراغماً قلبه , متكلفاً الصبر و الجلد , فقال في عقب ذلك:
وَأسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً ............... تَكَلفُ شيءٍ في طِباعِكَ ضِدّهُ
وكان أبو الطيب يظن أن في الفراق ما ينسيه "خولة" و يمحو من قلبه آثارها. وقد فارق , وعلم أن ذلك لن يكون , وأن ما كان من اندفاعه و مراغمته عند أول الفراق , إنما كان أمراً يخالف طبيعة حبّه التي وصفها في شعره قبلُ وهو عند سيف الدولة بقوله:
إلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ .................. ولا رأيَ في الحُبّ للعاقِلِ
يُرادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيانُكُمْ ............... وتأبَى الطّباعُ على النّاقِلِ
¥