هذا .......... و إذا أنت أخذت في دراسة شعره في المدح و الحكمة في هذه الفترة , وجدت آثار هذا الحب الذي انقطعت منه آمال اللقاء و الابتسامة و التلطّف , وما رُمي في قلب أبي الطيب من الكمد و الحسرة والأسف و الحنين , فأصبح كلامه و بيانه من تلك العواطف اليائسة التي انطوى عليها قلبه , واضطرب بها ضميره و فكره , وبذلك تميّز شعره في هذا العهد , من شعره فيما سبقه , وتباين عنه تبايناً عظيماً.
و يقول أبو الطيب يذكر فارقه سيف الدولة و مقدمه على كافور , وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 347هـ:
فِراقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيرُ مُذَمَّمِ ................ وَأَمٌّ وَمَنْ يَمّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
وَمَا مَنزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِلٍ ................. إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ
سَجِيّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُليحَةً ................... منَ الضّيمِ مَرْمِيّاً بها كلّ مَخْرِمِ
(رَحَلْتُ فكَمْ باكٍ بأجْفانِ شَادِنٍ ................ عَلَيّ وَكَمْ بَاكٍ بأجْفانِ ضَيْغَمِ)
(وَمَا رَبّةُ القُرْطِ المَليحِ مَكانُهُ ............... بأجزَعَ مِنْ رَبّ الحُسَامِ المُصَمِّمِ)
(فَلَوْ كانَ ما بي مِنْ حَبيبٍ مُقَنَّعٍ .............. عَذَرْتُ وَلكنْ من حَبيبٍ مُعَمَّمِ)
(رَمَى وَاتّقى رَميي وَمن دونِ ما اتّقى ....... هوًى كاسرٌ كفّي وقوْسي وَأسهُمي)
(الشادن): ولد الغزال , يريد به المرأة الغريرة الحسناء
(الضيغم): الأسد.
فهو بالبيت الأول قد عيّن من أراد بهذه القصيدة , فالذي فارقه هو سيف الدولة , و الذي قصده و يمَّمه هو كافور , وعلى ذلك اتفق الشراح جميعاً , فلما أتى البيت الرابع قال: ((رحلت)) يعني رحلته عن حلب , ثم ذكر بعده ما كان من جرّاء هذا الفراق , وأبان عن الذي كان سبباً فيه , وقابل في ذلك بين اثنين: رجل وامرأة. فذكر باكية تبكي على فراقه بعيني غزال , وباكياً يبكي بعيني أسد , وجازعة لفراقه زينتها القرط الذي في أذنها , وجازعاً زينته حسامه. وقد اتفق الشراح أيضاً = ولا شك فيما قصده أبو الطيب = على أنه قصد سيف الدولة بقوله (ضيغم) , وقوله (رب الحسام المصمم). والمقابلة بين سيف الدولة و هذه المرأة دليل على صلتها بسيف الدولة و بأبي الطيب , ومعرفة سيف الدولة بهذه الصلة , ولا نشك بعد ما رأيت أنه عنى بالباكية الجازعة لفراقه "خولة" أخت سيف الدولة , ثم قال بعد: ((فلو كان ما بي من حبيب مقنع عذرت)) وصبرت على ما يصيبني من لحبي إياه , و الأذى من المرأة المحبوبة ينزل من قلب المحبّ منزلة الرضا , فهو لا يحمل على فراق و لا بين , ولكن الذي حملني على الفراق كون هذا الأذى إنما أصابني ((من حبيب معمم) هو سيف الدولة. ثم صرح في البيت الأخير مبيناً عن هواه فقال: إن سيف الدولة رماه بسهمه (يريد الأذى الذي أصابه منه) , و اتقى بدرعه أن يرميه أبو الطيب بسهم مثله , وهذا الاتقاء من سيف الدولة عمل لا محل له , إذ كان يعلم يقيناً أن أبا الطيب لن يرميه جزاء له كما رماه , لما في قلبه من حب "خولة" أخته وهواها الذي يحبس يده , ويكسر كفّه , و يحطم قوسه , ويدقّ سهمه.
هذا ...... وقد رووا أن أبا الطيب اتّصل به وهو بمصر أن قوماً نَعَوُهُ في مجلس سيف الدولة بحلب , فقال قصيدة يذكر ذلك و لم ينشدها كافوراً , وكان مما جاء في أولها قوله:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ ..................... وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني ................. مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِثٍ ............... ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ
فَمَا يُديمُ سُرُورٌ ما سُرِرْتَ بِهِ ................... وَلا يَرُدّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
(مِمّا أضَرّ (بأهْلِ العِشْقِ) أنّهُمُ ............ هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا)
(تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ .................. في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ)
تَحَمّلُوا حَمَلَتْكُمْ كلُّ ناجِيَةٍ ........................ فكُلُّ بَينٍ عَليّ اليَوْمَ مُؤتَمَنُ
(ما في هَوَادِجِكم من مُهجتي عِوَضٌ ........... إنْ مُتُّ شَوْقاً وَلا فيها لهَا ثَمَنُ)
¥