وهناك من جعل السخرية والتهكم شيئاً واحداً فقال في تحديد التهكم (هو الاستهزاء والسخرية وهو ما كان ظاهره جد وباطنه هزل، وطريقة السؤال عن شيء مع إظهار الجهل به، وان تلقي على محدثك _ بعد التسليم بأقواله_ أسئلة تثير الشكوك في نفسه حتى إذا انتقل من قول إلى قول أدرك ما في موقفه من التناقض واضطر إلى التسليم لجهله). (13)
وعلاقة السخرية بالفكاهة تتمثل في انهما يلتقيان في المادة أو الطريقة فكل ما يضحك هو هزل ولكنه ينقسم إلى قسمين أحدهما ليس له غرض أو هدف إلا الإضحاك، وهو الفكاهة، وله غرض هادف واضح وهو السخرية). (14)
إن إشكالية تحديد المصطلح الأدبي والنقدي بشكل عام هي من الإشكاليات التي يعاني منها الباحثون في مجال الأدب، وان إشكالية تحديد مصطلح السخرية ترتبط ارتباطا وثيقا باختلاط مفهومه مع المفاهيم الأخرى، ولكننا لا ننفي وجود علاقات تشابه بينه وبينها ولكن هناك ثمة فروقات واضحة يمكن تلمسها من خلال الدراسة والتمحيص.
لأن السخرية من اكثر الفنون رقياً وصعوبة، لما تحتاج من ذكاء وفكر، وهي لذلك أداة دقيقة وسلاح خطير بأيدي الفلاسفة والكتاب بوجه السياسات الظالمة المستبدة المتحكمة بمصائر الشعوب، كما انهم يستخدمونا في نقد العادات والتقاليد البالية في المجتمع وأمراضه الكثيرة من جهل و تخلف ونفاق. (15)
فالسخرية إذاً لا يمكن أن تكون هي النكتة أو المزاح ولا هي التهكم ولا الهجاء ذاته ولا هي الفكاهة وحدها بل هي شيء أسمى من ذلك، إنها: (رد الإنسان الأعظم على معاكسة القدر، وظلم الدهر، وقسوة الطبيعة أو عيوب المجتمع، ونقائص الناس، وهو يسخر من هذه جميعا، ولا يسبها ولا يحقد عليها بل يتأملها بهدوء ويبصر سخافتها وتناقضها وتفاهتها وصغرها، فيعلو عليها جميعا ويتحدث عنها بابتسامة هادئة جميلة مستخفة هازئة، وينبغي أن لا يكون حديثه سيء اللفظ بذيئا، ولا يكون محتدا ثائرا وإلا كان سخرا، فالسخر هو الهدوء التام والأدب التام والعلو التام عن مصائب الدنيا). (16)
والسخرية من حيث شدتها ومدى تأثيرها تبدو في حالتين:
الأولى: ذات روح فكهة خفيفة لا تعتمد الإيذاء ولا تصل إلى درجة الإيلام، تحمل في طياتها ما يبعث على الابتسامة والضحكة والإعجاب بقائلها وهي أخف وطأة واقل شراً من الثانية.
الثانية: ذلك الصنف من السخرية المرة اللاذعة التي تجعلنا نضحك بمرارة ونيأس ونشعر بفداحة العيب، وهي سخرية مريرة الطعم قاسية اللذع واللدغ وطأتها شديدة و أثرها بالغ لاسيما حين تتصل بالأشخاص. (17)
ولما كانت السخرية في بعض أشكالها لوناً من التطاول على الإنسان والاستخفاف به لم يرتضِ الدين الإسلامي وقرأنه المجيد بعض أبوابها، وردت لفظة سخر ومشتقاتها في القران الكريم في ثمانية وثلاثين موضعاً توزعت معانيها الدلالية بين الاستهزاء و التذليل.
جعل الله سبحانه وتعالى السخرية صفة غالبة على الكافرين المجرمين الذين يدعون بعضهم بعضا للسخرية وكأنهم يتنافسون فيها تسابقا في الشر (وإذا رأوا آية يستسخرون). (18)
قال الرماني (معناه يدعو بعضهم بعضا إلى أن يسخروا، ليسخرون، أي يسخرون ويستهزؤن)، (19) وهذا اللون من ألوان السخرية هو اشد مقتا عند الله ولكن آية السخرية هذه هي سخرية الكافرين بالرسل والأنبياء وهم النماذج العليا للبشر والدعاة إلى الهداية بأمره جل وعلا، ولما كانت طاعة الرسول الكريم محمد (ص) هي من طاعة الله ومحبته من محبته، فان التطاول على مقام الله سبحانه وتعالى سبحانه عما يشركون، لذا فقد بين عز وجل في آياته أن سخرية الكافرين لا تدر عليهم إلا الويل والسخط وأنها تنقلب عليهم (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالَّذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون). (20)
وقد بين لنا القران الكريم ان السخرية عمل مكروه،إذا كان فيه تطاول واستخفاف فقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن هذا اللون من السخرية وقال في سورة الحجرات (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهنَّ). (21)
¥