وفضلكَ لا يُحدُّ ولا يُجارى ... ولا تَحوي حيازتَهُ الظنونُ
خُلقْتَ بلا مُشاكلةٍ لشيءٍ ... فأنتَ الفوقُ والثقلانُ دونُ (25)
فهو يغالي في الممدوح ويرفعه عن بقية البشر ولعله دون بعضهم إن لم يكن أكثرهم.
ومن الأول قوله في صفة الخمر:
كأنَّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباءُ درّ ٍ على أرضٍ منَ الذهب ِ
حيث روي أنّ المأمون لما تزوج بوران بنت الحسن بن سهل بفم الصلح، فُرشَ لها حصيرٌ من ذهب ونُثرَ عليها دُرٌّ كبار ولؤلوٌ، فلما أخذ الدرّ يتلالئ على حصير الذهب، قال المأمون: قاتل الله الحسن بن هانئ كأنه رأى هذا المنظر حيث يقول: كأنّ صغرى .... ألخ (26).
وعليه فالكذب الصريح على كونه محرّماً فهو قبيح، هزله وجده، قال الشاعر:
تجنب الكذب مهما كان غايته ... فالكذب أقبح شيء في الورى صدرا
فكما يقبح الكذب في الكلام والخطاب، يقبح في الشعر لأنه ضرب من الكلام، قال الجرجاني: (إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح) ثم قال: وقد روي ذلك عن النبي (ص) مرفوعاً (27).
لنَعُدْ الآن الى قول إمرئ القيس:
كأنَّ قلوبَ الطيرِ رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي (28)
فقد أجاد الشاعر في توليد المعاني واختراعها، واستظراف الألفاظ وابتداعها، وحاكى الطبيعة وما فيها من الصِوَر،بأصدق التعابير والفِكَر، فهو شاعرٌ بحقّ ٍ لأنّ أرسطو يُسمّي شاعراً (من يأتي بالمحاكاة في مزيج من الأعاريض) (29)، ويرى ابن المعتزّ أنّ بيت إمرئ القيس هذا حوى على حسن التشبيه ولذلك فهو من محاسن الكلام والشعر (30).
ولكن الأدباء والنقاد فضلوا عليه قول النابغة الذبياني:
ولستَ بمُستبقٍ أخاً لا تلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المُهذّبُ؟ (31)
رغم تساوي البيتين في جودة الألفاظ والسبك (32)، لأنهم يرون أنّ الشعر يجبُ أن يحتوي على حكمةٍ أو أدبٍ يُستفاد (33).
قال أحمد شوقي:
والشعرُ ما لَمْ يكنْ ذكرى وعاطفةً ... أو حكمةً فهْوَ تقطيعٌ وأوزانُ (34)
وجليٌّ أنّ بيت النابغة فيه من الحكمة والعظة والأدب المستفاد أكثر من بيت إمرئ القيس، وعليه فهذا البيت وما جرى مجراه هو الشعر الحقُّ وما عدا ذلك فمتفاوتٌ في درجة الشاعرية إلى حدّ الإنعدام، والحقُّ أنّ بعض النظم لا يستحقّ أنّ يسمى نثراً فضلاً عن أنْ يسمى شعراً
كما أنشد خلف الأحمر:
وبعضُ قريضِ القومِ أولادُ علّةٍ ... يُكدُّ لسانَ الناطقِ المتحفِّظ ِ
أو كما أنشد أبو البيداء الرياحي:
وشعر ٍ كبعرِ الكبشِ فرّقَ بينهُ ... لسانُ دعيٍّ في القريضِ دخيل ِ
وبعض الشعراء يريدون فقط أن يقال عنهم بأنهم شعراء، فلا يراعون الفنّ والجمال والشاعرية والأدب الرفيع، والحقّ أنّ شاعراً كهذا:
زلّت به الى الحضيضِ قدمُهْ
يريدُ أنْ يعربهُ فيعجمهْ
والعجب كلّ العجب أنْ يعدّ ما يسمى بشعر التفعيلة (حركة الشعر الحر) والشعر المرسل وقصيدة النثر شعراً!! ولا ندري على أيّ مقياسٍ كان ذلك؟!.
ومن الأبيات التي تستحقّ أن يقال لها شعراً نذكر هذه الطائفة:
- قال لبيد:
ستبدي لكَ الأيامُ ماكنت جاهلاً ... ويأتيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزوَّد ِ
- قال العرجي:
أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسَدادِ ثغرِ
- قال الشريف الرضي:
دعِ المرءَ مطوياً على ما ذممْتهُ ... ولا تنشرِ الداءَ العضالَ فتندما
- قال طرفة:
وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضة ً ... على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّد ِ
- قال الأحوص:
إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوى ... فكُنْ حَجَراً من يابسِ الصخرِ جلمدا
- قالالأخطل:
قومٌ إذا استنبحَ الأضياف كلبهمُ ... قالوا لأمّهمِ بولي على النار ِ
- قال ابو طالب:
حيُّهم سيّدٌ لأحياءِ ذا الخلْقِ ... ومَنْ ماتَ سيّدُ الأموات ِ
- قال عبدة بن الطيب:
وما كانَ قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ ... ولكنّهُ بنيانُ قومٍ تَهدّما
- قال الفرزدق:
ما قالّ لا قطّ إلا في تشهّدهِ ... لولا التشهّدُ كانت لاؤهُ نعَمُ
قال أبو نواس:
فجاءَ بِها زيتيّةً عسجديةً ... فلم نستطعْ دونَ السجودِ لها صبرا
من كلّ هذا يتبين لنا أنّ الشعر يمكن تعريفه على النحو التالي - وهو ما نعتقد أنّه أقرب التعريفات الى واقع الشعر العربي -:
¥