والقرينة لا تقطع ارتباط المصطلح بمعناه الحقيقي قطعاً جازماً تاماً، ففي مصطلح الإعراب ـ على سبيل المثال ـ حيثما ورد، إشارات خفية إلى معانيه الحقيقية الأولى. فأنت حينما تستعمله بمعناه الاصطلاحي لا تستطيع أن تمحو من ذهنك ما يتراءى لك وراء الحركات الإعرابية من ظلال المعاني الحقيقية، لأن في الإعراب النحوي تحسيناً للفظ وإبانة عن المعنى، وإصلاحاً لفساد اللحن، وتكلما بالعربية على أحسن أوجهها.
إن المعنى الحقيقيّ ـ وهذا سرّ من أسرار العربية الاشتقاقية الولود ـ لا يمكن أن يُجتثّ اجتثاثاً من المعنى المجازي، بل تبقى منه ألوان أو أطياف باهتة تخالط الدلالة الاصطلاحية على نحو من الأنحاء. قال أبو البقاء: "كلّ حرف كان له معنى متبادر كالاستعلاء في (على) مثلاً، ثم استعمل في غيره لا يترك ذلك المعنى المتبادر بالكلية، بل يبقى فيه رائحة منه، ويلاحظ معه" (42).
وربما كان التمثيل بحرف اللام المفردة أوفَى وأشفى من التمثيل بـ (على) فقد ذكر النحاة أن اللام المفردة الجارة لها وحدها اثنان وعشرون معنى (43)، وإذا كان ردّ هذه المعاني كلها إلى معنى واحد مستحيلاً أو صعباً، فليس من الصعب أن ترد أربعة منها على الأقل إلى معنى واحد، أي: ليس من الصعب أن ترد الاستحقاق في نحو: (الحمد لله) والملك في نحو: (له ما في السموات وما في الأرض (والتمليك في نحو: وهبت لزيد، وشبه التمليك في نحو: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً. (أقول: ليس من الصعب ردّها إلى معنى الاختصاص. والدليل على ذلك اختلاف النحاة والمفسرين والأصوليين في معاني بعض الأدوات، والدليل على ذلك أيضاً قول ابن هشام: "وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين" (44). أي: الملك والاستحقاق.
ولما كان الجمع بين الحقيقة والمجاز في مصطلح واحد غير جائز كما يقول الكفوي، فإن الشيخ آثر أن يطرح لفظ المجاز ليزيل من التفكير العلمي المنطقي مخايل السمات المجازية، وليحصره في نطاق واقعي دقيق. وهو في مسلكه هذا لا يرى ضيراً في تسمية المصطلح وما يدل عليه (حقيقة عرفية). يقول أبو البقاء: "المجاز المتعارف حقيقة عرفية، والحقيقة اللغوية بالنسبة إلى الحقيقة العرفية عند أهل العرف مجاز" (45).
ألا ترى أن في هذه النقلة من المجاز إلى الحقيقة خطوة علمية جريئة تخطو بالمصطلح إلى الوضوح والدقة، وهي خطوة لابدّ منها لكي تسير العلوم المختلفة بأقدام ثابتة، وأقدامها الثابتة هي مصطلحاتها أو حقائقها العرفية التي ألقت عن مناكبها ظلال الخيال.
وزبدة القول فيما عرضنا من آراء الكفوّي في صياغة المصطلح النحوي أنّ هذه الآراء المبثوثة في كتابه (الكليات) استطاعت أن ترصد المسلك الذي يسلكه المصطلح حينما ينتقل لفظه من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية مستعيناً في هذا الانتقال بخصيصة من أهمّ خصائص اللغة العربية، وهي طبيعتها الاشتقاقية الولود التي أشرنا إليها في مقدمة البحث، وأن الدارسين المحدثين توصلوا إلى ما توصل إليه في هذا الميدان. قال الدكتور محمد إبراهيم عبادة: "الحق أن المصطلح تجتمع له مقومات المجاز والنقل والمولد:
أما مقومات المجاز فلأنه عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة ...
وأما مقومات النقل فلأن من طرائق النقل أن يشيع الاستعمال المجازي، فتنتقل الكلمة إلى ما يسمى المجاز الراجح، ثم يصير بغلبة الاستعمال منقولاً إلى المعنى الجديد.
وأما مقومات المولد .. فيراد باللفظ المولد ما نقله المولدون بطرق التجوز والاشتقاق من معناه الوضعي اللغوي الذي عرف به في الجاهلية وصدر الإسلام إلى معنى آخر تعورف" (46). وبعد أن يصقل الاستعمال المصطلح ينسى الناس معناه المجازي فينقلب إلى ما يشبه المعنى الحقيقي، أو ينقلب ـ كما ذكر الكفوي ـ إلى حقيقة عرفية.
"وتصبح الدلالة الجديدة دلالة حقيقية ينصرف الذهن إليها مباشرة عند سماع المصطلح، وتنسى العلاقة المجازية" (47). وقال الدكتور علي عبد الواحد وافي ـ وفي قوله مظاهرة لما ذهب إليه الكفوي ـ:"كثرة استخدام الكلمة في معنى مجازي تؤدي غالباً إلى انقراض معناه الحقيقي، وحلول هذا المعنى المجازيّ محله" (48).
¥