والخلاصة أن انتقال الدلالة من الحقيقة إلى المجاز أو من المحسوس إلى المجرد ظاهرة عامة في اللغات، وقد تكون هذه الظاهرة أخصب الظواهر في تطور الدلالات، وأقوى العوامل على ظهور المصطلحات. ومما ساعد العربية على استخدام هذه الظاهرة في التجدد والنماء طبيعتها الاشتقاقية، ودقة التصور في الفكر العربي، فقد كان العرب يفجرون هذه الطاقة الكامنة في لغتهم كلما أحوجهم تطورهم إلى مصطلحات جديدة، فيثرون لغتهم بلغتهم ولا يتطفلون على اللغات الأخرى بالترجمة والتعريب إلاّ في حالات نادرة.
3 ـ تعريف المصطلحات النحوية:
عاش أبو البقاء الكفوي في القرن الحادي عشر الهجري أي في عصر الاستقصاء والإحصاء وتصنيف الموسوعات الجامعة، ولم يعش في عصر الابتكار وصياغة المصطلحات، فمن الإجحاف أن يطالبه الباحث بوضع مصطلحات جديدة لعلوم قديمة، وجدها ناضجة قبل أن يتمرس بها. ومن هذه العلوم الفقه، وأصوله والفلسفة، والمنطق والنحو، وهي العلوم التي ملأت مصطلحاتها كتابه (الكليات).
إن المصطلحات لا تصاغ إلاّ حينما ترقى العلوم، ورقيها يحفز المبدعين إلى البحث عن أوعية لفظية تستوعب ما يبدعون من أفكار جديدة، وتنقلها إلى سواهم، فالمصطلح يولد من الفكرة، والفكرة لا تولد منه، فمن لم يتمخض عصره أو فكره عن علم جديد فليس في حاجة إلى مصطلح جديد.
أما تعريف المصطلحات القديمة لتوضيح دلالاتها فله عند الباحثين شأن آخر، إذ المفروض أن يتمّ اللاحقون عمل السابقين، فإذا وجدوا في التعريفات أو الحدود الموروثة خللا أصلحوه، أو غموضاً أوضحوه، لينقلوا ما احتملوا جلياً نقياً من الأوشاب، فهل نهض الكفوي بهذا العبء، وكيف جاءت تعريفاته في (كلياته)؟ أكانت تكراراً لتعريفات الأقدمين بما فيها من وضوح وغموض أم حاولت أن تكون أتمّ منها وأوضح؟.
قبل أن ننظر في تعريفات المصطلحات الواردة في (الكليات) يحسن بنا أن نتذكر ما تذكر كتب المنطق والأصول من أنواع التعريفات، وأبرزها ثلاثة أنواع: التعريف اللفظي والتعريف الاسمي (أو الرسمي) (49).
أبسط هذه الأنواع التعريف اللفظي "وهو تعريف اللفظ بلفظ آخر مرادف له أوضح منه عند السامع" (50).
كأن نقول: الخالفة اسم الفعل.
والنوع الثاني يسمى التعريف الاسمي، "وهو التعريف لماهية متخيلة في الذهن ولا يعلم لها أفراد موجودة في الخارج ... كتعريف العنقاء بأنه طائر طويل العنق يصطاد الصبيان" (51). وهذا النوع لا يصلح لتعريف المصطلحات النحوية، لأن النحو يدرس كلام العرب المستعمل في الواقع لا كلاماً متخيلاً لم تجر به ألسنتهم.
وثالث الأنواع ـ وهو أهمها ـ التعريف الحقيقي" وهو التعريف بالحدّ أو بالرسم لماهية لها أفراد موجودة في الخارج" (52) كتعريف الاسم المقصور بأنه "اسم معرب آخر ألف ثابتة، سواء أكتبت بصورة الألف كالعصا، أم بصورة الياء كموسى" (53).
أما التعريف اللفظي فهو كثير الشيوع في كليات الكفوي، من ذلك قوله: "الحضّ كالحث: التحريك" (54). غير أن الكفوي لم يكن يكتفي في أغلب الأحيان بهذا النمط من التعريف، بل كان يشفعه بتعريف حقيقي يكمله، كقوله في تعريف الاستثناء: "الاستثناء في اللغة المنع والصرف، والاستثناء إيراد لفظ يقتضي رفع ما يوجبه عموم اللفظ أو رفع ما يوجبه اللفظ" (55).
وقد يهمل الكفوي تعريف اللفظ ويجتزئ من التعريف اللفظي بتفسير الصيغة الصرفية للكلمة، ومن ذلك قوله في تعريف التعجب: "التعجب هو بالنظر إلى المتكلم، والتعجيب بالنظر إلى المخاطب" يريد أن صيغة (تفعّل) للفعل اللازم، وصيغة (فعّل) للفعل المتعدي، وأن الصيغة تمنح الألفاظ المختلفة المعاني والجذور المتفقة الصيغة دلالة مشتركة، عبر عنها الكفوي بقوله: كل لفظ فله معنى لغوي وهو ما يفهم من مادة تركيبه، ومعنى صيغي وهو ما يفهم من هيئته أي حركاته وسكناته وترتيب حروفه" (56). وقد يفضي به تفسير الصيغة أو التمثيل لها إلى الخطأ كقوله: "وفَعَالِ كقطامٍ أمر" (57). فقطام من أعلام النساء، أو الصقر اللاحم (58)، وليست اسم فعل للأمر. ولو قال: كحذار ونزال لكان أجود وأدق.
¥