تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ظهرت في الحجاز العديد من الشخصيات النقدية التي أثر عنها الكثير من النقد، وأكثرها إثراءاً شخصية ابن أبي عتيق، فقد ملأ الحجاز نقداً ظريفاً لأكثر شعراء الغزل في عصره، وكان يعتمد في نقده على ذوق مرهف وحِسّ مترف، وقريحة وقّادة، وبصيرة نافذة في التمييز بين جيّد الشعر ورديئه، صحيحه وزائفه، وإلى جانب ذلك كله كان محيطاً بثقافة عصره ومعارفه، وثيق الصلة بحياته الأدبية، عليماً بتيّاراتها واتجاهاتها، متجاوباً معها.

من الأساليب المميزة لابن أبي عتيق في النقد هو اتخاذه أسلوب السخرية الضاحكة إلى حد الإيجاع أحياناً، وكأنه أراد هذا ليمثل الروح الحجازية بما فيها من رقة وظرف، وأن يجاري روح الشعر المعبّر عن حياة الحجاز المرحة اللاهية، وبالتالي يلائم بين روح الشعر وروح النقد.

لابن أبي عتيق آراء نقدية كثيرة في عدد من شعراء عصره، لكن أكثرهم اهتماماً وعناية بالنسبة له هو عمر بن أبي ربيعة، فقد كان مصاحباً له داعماً لشعره حتى اتهمه نقاد عصره بالانحياز إليه، لكنه كان يقوم بهذا ليدفع عمر نحو الغناء والنظم وملئ الحجاز بالإبداع والغناء، وبالتالي يخدم الشعر، وإنه في مجاراته له لم يكن مُطلَقاً، بل وضع حدوداً لم يتعداها، فهناك حدود لِما يصِح أن يوافق صاحبه أو يخالفه فيه من حيث المبدأ والقيم الأخلاقية والسلوك.

لقد جاء نقد ابن أبي عتيق في صور متعددة، وهي صور جزئية تضمنت آراءه وملاحظاتِه النقدية، و هذه الصور على النحو الآتي:

أ. التعليقات:

وتتمثل في صورة تعليقات ظريفة ليست في صميم النقد، وإنما تأتي على هامشه، وهي إن دلّت فإنها تدلّ على ذوق الناقد، وبصره بالشعر، وبما يستجاد أو لا يستجاد منه. وتتميز هذه التعليقات بالإيجاز والدعابة الساخرة، والتلميح دون التصريح، ثم بالعبارة التي تحاول محاكاة الشعر في لغته وبلاغته.

لا تدخل هذه التعليقات في النقد إلا من باب التجوُّز، ولكنها مما استحدثه نقاد الحجاز من أمثال ابن أبي عتيق، والمخزومي، وهناك الكثير من الأمثلة على هذه التعليقات نورد منها مثالاً واحداً:

"أنشد عمر بن أبي ربيعة قصيدة ذكر فيها جاريةً له توسّطت في الصلح بينه وبين إحدى صواحبه، وقد وصف عمر هذه الجارية في القصيدة بقوله:

فبعثنا طَبَّةً عالمةً تخلِط الجِدّ مراراً باللعبْ

تُغلِظ القولَ إذا لانت لَها وتُراخي عند سَوراتِ الغضبْ

لَم تزلْ تَصرِفُها عن رأيها وتأنّاها برفقٍ وأدَبْ

فقال له ابن أبي عتيق: الناس يطلبونَ خليفةً منذ قُتل عثمان في صفة قَوّادتِك هذه يدبّر امرهم فما يجدونه! "

ب. مقياس العاطفة:

عرض ابن أبي عتيق في أخباره إلى نقد العاطفة في شعر بعض معاصريه، ومقياس الحكم على العاطفة عنده مستمد من مقياس النقّاد السابقين، فيتمثل في مدى صدقِ العاطفة أو عدم صدقها؛ فالعاطفة الصادقة في نظره هي ما تنبعث من أسباب صحيحة غير زائفة أو مُفتَعَلة. فصدق العاطفة عنده عنصر من عناصر الجمال في الشعر، وعلى الشاعر أن يكون أميناً مع نفسه وعواطفه، فلا يعبّر إلا عمّا يشعر به أويعنيه حقاً، وقد كان أحياناً يوازن بين الشعراء من حيث صدق عاطفة كلّ منهم، ومن أمثلة ذلك أن حضر ابن أبي عتيق عمرَ ابن أبي ربيعة وهو ينشد قوله:

ومَن كانَ محزوناً بإهراق عَبرَةٍ وَهَى غَربُها فَلْيأتِنا نُبكِه غَدا

نُعِنْهُ على الإثكالِ إنْ كانَ ثاكِلاً وإنْ كان مَحرواباً وإنْ كانَ مُقصَدا

فلمّا أصبح ابنُ أبي عتيق أخذ معه خالد الخِرِّيت وقال له: قُم بنا إلى عمر. فَمَضيا إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئناكِ لِموعِدِك. قال: وأي موعدٍ بيننا؟ قال: قولُك "فَليأتِنا نُبكِه غدا". قد جئناك، والله لا نبرح أو تبكيَ إن كنتَ صادقاً في قولك، أ, ننصرف على أنك غير صدق، ثم مضى وتركه.

ج. مقياس المعنى:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير