تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اتخذ ابن أبي عتيق أربعة مقاييس لقياس المعنى والحكم عليه، وأول هذه المقاييس هو الوضوح والغموض، فما يحتاج إلى تُرجمان يترجمه ليس بشعر، والمقياس الثاني هو الصدق والكذب، فيرفض المعاني التي يغالي في ها الشاعر ويغرق، ويرفض كذلك ما امتنع عقلاً وعادةً، فيأخذ على الشاعر أنه يكذب على نفسه وعلى الناس حين يدّعي ما لا يقدر عليه حقّاً وصدقاً، فينتقده بسخريته المعهودة، وهو في هذا آخذ بمقياس الجاهليين في نظرهم إلى المبالغة، فيرى في التبليغ والإغراق والغلوّ مفسدة للمعنى ومنافَيَةً للصدق.

ومن مقاييس المعنى التي اتخذها ابن أبي عتيق كذلك مقياس الصحة والخطأ، فالخطأ قد يصيب المعنى أو يتطرّق إليه من ناحية الجهل بالمدلول اللغوي للألفاظ، أو الجهل بالحقائق، أو من ناحية مخالفته للواقع والطبيعة، أو عدم مطابقته لحال المتكلم أو نوع ثقافته، فيرفض أن ننسب كلاماً إلى متكلم لا يليق بثقافته أو بحاله الفكري وعلمه، ومن المقاييس أيضاً التي قاس بها المعنى "الوفاء بالمعنى"، وذلك بأن يستوفي الشاعر كلّ ظلال المعنى وأن يأتيَ به تاماً كاملاً. وفي هذه المقاييس كلها كان ابن أبي عتيق يحكم على الشعراء ويوجه لهم النقد الساخر الموجع، وهي جليّة في الكثير من أخباره.

د. الموازنات الشعرية:

وُجِدَت الموازنة في النقد العربي منذ زمن طويل، فكن التفضيل بين شاعر وآخر، وبين شعرٍ وشعر، ولكن الاحكام فيه كانت في أغلبها عامة غير معللة، وامتد هذا النوع من الموازنات إلى النقد في بيئة الحجاز أيام بني أمية، كالموازنة التي فضّل فيها كُثيّر جميلاً على نفسه، ولكن إلى جانب هذا الموازنة فقد ظهر صور أخرى لها، يبنى فيها الحكم على التعليل، فيلتفت الناقد إلى جوانب غير مسبوقة، وكان ابن أبي عتيق الوحيد الذي اتجه إلى توسيع مجال النقد من هذه الناحية، ففي الموازنات التي عقدها بين بعض الشعراء يتجاوز التعليل إلى بحث قضايا كمن صميم النقد، ومن هذه الموازنات العديدة نورد الموازنة التالية:

"زاره في المدينة كُثيِّر عزّة فاستنشده فأنشده كُثيّر قصيدته التي مطلعها:

أَبائنةٌ سُعدى؟ نعم سَتَبينُ كما انبَتَّ من حبلِ القرينِ قَرينُ

حتّى بلغ إلى قوله:

وأخلَفْنَ ميعادي وخُنّ أمانتي وليس لِمَن خان الأمانةَ دينُ

فقال له ابن أبي عتيق: أَعلى الأمانة تبعتَها؟ فانكفّ- كُثيّر- واستغضب نفسه وصاح وقال:

كَذَبنَ صفاءَ الودِّ يومَ مَحِلِّهِ وأنكدنَني مَن وَعدُهنَّ دُيونُ

فالتفت إليه ابنُ أبي عتيق فقال: وَيْلَك! أوَ للدَّين صَحبتهنّ يا ابن أبي جمعة؟ ذلك والله أملح لهنّ، وأشبه بهنّ، وأدعى للقلوب إليهنّ. وإنما يوصفنَ بالبخل والامتناع، وليس بالوفاء والأمانة. سيِّدُك ابن قيس الرقيّات كان أعلمَ وأشعرَ منك، وأوضَعَ موضعه منهنّ! أما سمعتَ قوله:

حَبَّ ذاكَ الدَلُّ والغُنُجُ والتي في طَرفِها دَعَجُ

والتي إن حدّثتْ كذبتْ والتِي فِي وعدِها خَلَجُ

وترى في البيت صورَتَها مثلما في البِيعةِ السُّرُجُ

خبِّروني هل على رجلٍ عاشقٍ في قُبلةٍ حَرَجُ؟

فقال كثير للسائب راويته الذي كان معه: قم بنا من عند ها، ثم نهض ومضى"

نلاحظ مما سبق أن ابن أبي عتيق تناول شيئاً جديداً على النقد في تلك الفترة، وهو صدق التجربة الشعرية، وينبع هذا الصدق من معايشة التجربة لا من تخيّلها، ومن اتعمق في فهم طبيعتها وأبعادها ومن التعامل معها على أساس القيم العاطفية، وانطلاقاً من وجهة النظر هذه تأتي موازنة ابن أبي عتيق كاشفة عن حقيقتين؛ أولاهما أن الموازنة تمّت بين كلام شاعرين وهي مشفوعة بالعلل والأسباب، والثانية أن ابن عتيق التفت إلى صدق التجربة وأثرها في قيمة الشعر وميزان النقد، وهذه الالتفاتة مبكرة، ولكنها محاولة في سبيل تطوير الموازنات الشعرية الانتقال بها خطوة عى طريق النقد القويم.

لم يكتفِ ابن أبي عتيق بمقياس صدق التجربة في موازناته، بل اعتمد على دقّة المعنى، ولطف المدخل، وسهولة المخرج، ومتانة الحشو، وتعطُّف الحواشي، ووضوح المعاني، وبساطة الفهم، فهي قيم جمالية نقدية لا بد من الاستعانة بها لادراك موان القوة والضعف في الشعر، ويزيد على هذه القيم صدق العاطفة والتأثير في عواطف ومشاعر السامعين وبلوغ الوفاء بالغرض والتعبير عنه.

ابن أبي عتيق وتشبيب عمر بنفسه:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير