ثم يصل القرطاجني إلى الحديث عن الشاعر الذي لا يقابل بين الكلام، و يبني صدور الأبيات على أعجازها، فيوضح أنه مع ابتدائه بوضع القافية قبل أول البيت، يتطلب للكلمة - التي يريد وضعها قافية - معنى له علاقة بما تقدمه من أبيات، و بعدها يحتال في زنة العبارة و وضع أولها وضعا يليق بما تقدمه.
و كذلك من شأنه بناء أواخر الأبيات على أولها فإنه يتطلب معنى مناسبا لما تقدم في أول البيت، و ملائما للقافية بالضرورة، و الأحوال في كلا الطريقتين مختلفة بحسب ما يعرض من خاطر، فتارة يَبنى على القافية جميع البيت، و تارة شطره أو أكثره، ثم تَسد الثلمة الباقية بما يناسب الكلام المتقدم، و قد يبني الشاعر (الكلام من أوله إلى آخره إذا سنحت له القافية بيسر، أو يُكمّل بناء الشطر الأول أو أكثر من الشطر ثم يُتم الباقي بما تتيسر له فيه القافية) (ص 281).
و المذهب المختار عند القرطاجني هو بناء معظم البيت على القافية، فيبدأ الشاعر بتعيين القافية، ثم يبني الشطر الثاني على هذه القافية، ثم يعود أخيرا ليبني الشطر الأول على هذا الشطر الثاني (بعد عدم صعوبة القافية).
ملاحظة:
- قد يقع التكلف عند بناء أغلب البيت على القافية (خصوصا عند بناء الشطر الثاني على القافية قبل الشطر الأول)، و ذلك حينما يتم المعنى في الشطر الثاني و يكون موافقا لما قبله من الأبيات، فيصبح الشطر الأول زيادة لا معنى فيها.
- كما يقع التكلف أيضا عند بناء أغلب البيت تبعا لأوله ثم استُؤنف بعد ذلك النظر في القافية.
- قد ينتظم البيت كله للشاعر دفعة واحدة في غاية السهولة و البعد عن التكلف، و مثل هذا للمطبوعين كثير.
ز- معرف دال على طرق العلم بما يجب في المطالع
و المقاطع على رأي من قال هي أوائل البيوت
و أواخرها:
في اعتبار المطالع و المقاطع رأيان:
الأول أن المطالع استهلالات القصائد (أول بيت في القصيدة) و المقطع آخر بيت فيها، و الثاني أن المطالع هي أوائل الأبيات في كل القصيدة (الشطر الأول دائما) و المقاطع هي آخر كل بيت (العجز)
* فأما باعتبار الرأي الأول (المطلع أول بيت في القصيدة و المقطع آخر بيت فيها):
فما يجب في المطلع بالنظر لجملة المصراع (الشطر الأول):
حسن العبارة، و شرف المعنى، و وضوح الدلالة، و حسن تخيّر الألفاظ فلا تكون مكروهة لا مسموعا و لا مفهوما، فنفس المتلقي متطلعة لما يستفتح لها الكلام به، تنبسط لاستقبال الحسن، و تنقبض لاستقبال القبيح.
و أما ما يجب فيه (المطلع) بالنظر إلى الكلمة الواقعة في مقطع المصراع (آخر كلمة في الشطر الأول من البيت الأول)، فأن تكون مختارة، حسنة الدلالة على المعنى، مماثلة للكلمة التي في القافية مماثلَةً في الوزن و في احترام حركة المُجرى أو التقييد و التأسيس و الردف و الوصل بالضمائر و حروف الإطلاق، فإذا تحققت هذه المماثلة كاملة كان البت مصرعا.
و التصريع يفيد طلاوة، و له موقع حسن في النفس لاستدلالها به على القافية، و لازدواج صيغتي العروض و الضرب، و منه قول حبيب:
و تقفو إلى الجدوى بجدوى و إنما يروقك بيت الشعر حين يصرع
* و يُكره أن يأتي العروض بصيغة و الضرب بأخرى غير مماثلة (البيت غير مصرع) لما فيه من إيهام و انخداع، و يسمى هذا تجميعا.
* هذا الذي سبق عن مبنى المطلع، أما عن معانيه: فأن يكون مفتتح المصراع دالا على الغرض مع عذوبة في السمع، و لا يكون مما سُبق إليه كقولهم (خليليّ)، أو مما ختص به شاعر (قفا نبك)، و يُستحسن تقديم ما يكون لطيفا محركا بالنسبة إلى غرض الكلام كالمناجاة و التذكر في النسيب، أو قرن ذلك بمعنى من المعاني التي هي أحوال تعتري الإنسان كالتعجب أو التشكك أو التحسر، كقول حبيب:
يا بُعد غاية دمع العين إن بعدوا هي الصبابة طول الدهر و السهد
و قول المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق تحسب الدمع خِلْقة في المآقي
* و يجب أن يكون المصراع (الشطر) الثاني كالأول في حسن العبارة و شرف المعنى.
¥