وهكذا انتهى من هذه الرسالة فانتقل بنا من قوله أولا عن مذهب أهل الأداء المعمول به عندهم الذين قال: "إن الرواية من طريقهم"، و"هم القدوة دون غيرهم" ولا يجوز لأحد ن يقرأ بغير طريقهم".
إلى دعوتنا ودعوة سائر قراء عصره أخيرا إلى هجران تلك الطريق التي هي طريق أهل الأداء والاكتفاء بما وقع "الأخذ به عندنا بأرض المغرب وقعت المشافهة به عن الأشياخ المقتدى بهم".
بل يزيد على ذلك فيحذر من محاولة حكاية مذهب أهل الأداء الذين وصفوا في كتبهم حقيقة التسهيل بأنها "بين بين كما هو منصوص عنهم، ولم يعد بذلك أخذ ولا مشافهة" وقد عدمت فانعدم"، ولنا مندوحة عنه بما نص عليه الداني من إبدال الهمزة المسهلة هاء إذ لم نقدر على الإتيان به لعدم الأخذ".
ثم تأتي الطامة الكبرى في تحرجه من العودة إلى تصحيح ما اختل وتدارك ما فسد حين يقول بمنطق مثهافت: "يجوز لك منفردا، لا في الرواية "للكذب والإفتراء .. إلخ"، وكأن الذي يروي الخطأ عن "الأشياخ المقتدى بهم " لا يجوز له أن يعود إلى الصواب إذا وقف عليه، لا سيما والكيفية موصوفة منضبطة وتمثلها بالدرية والمران متأت وممكن فأي محظور في مراجعة الحق بعد ما تبين؟ أو ليست مراجعة الحق خيرا من التمادي في الباطل؟.
ثم أين هو النص المزعوم عن الحافظ الداني الذي يجيز فيه إبدال الهمزة المسهلة هاء مطلقا أو في أي حالاتها الثلاث؟ لم نجد أحدا أرشد إليه ولا نقل أحد ممن إدعاه شيئا من كلامه فيه، فبأي ذريعة نخالف نصوصه الصريحة في سائر كتبه والتي تفسر لنا المراد بهمزة بين بين تفسيرا لا يدخله الاحتمال كما قدمنا نقلا عن بعض كتبه المتداولة والمشهورة؟
أما الاحتجاج لجواز إبدال الهمزة هاء بما عليه العمل عندنا فهو احتجاج لا ينتهض أخذا بمنهج أبي زيد بن القاضي الصريح في كتبه، فإنه كثيرا ما يذكر ما عليه العمل بفاس ثم ينتقده وينسفه بقوة الحجة ويدعو إلى العودة إلى الحق والصواب.
فمن ذلك مثلا قوله في كتابه "مقالة الإعلام في تخفيف الهمز لحمزة وهشام" يقول عند ذكر الوقف على همزة "قروء" عند حمزة وهشام بالإبدال والإدغام: "تنبيه: قد بان بالدليل والبرهان من كلام الأئمة الأعيان أن ما جرى به العمل من نقل حركة الهمزة من قوله تعالى "ثلاثة قروء" لحمزة وهشام باطل لا عمل عليه .. فصار العمل به عندنا تقليدا، وإن ذكر الحق كان بعيدا، فرحم الله من أنصف، واتبع الحق حيث كان واعترف".
وقال في كتابه "بيان الخلاف والتشهير وما وقع في الحرز من الزيادة على التيسير" عند ذكر إخفاء النون وحقيقته في "أنذرتهم" في أول البقرة: "فمن أخل بالإخفاء فلا تحل تلاوته ولا روايته، فهذه وما أشبهها قد غفل عنها أهل مغربنا، فقد اجتمع أساتيذ المغرب يوما ب"المدرسة العنانية" وتفاوضوها فلم يلم بها أحد ولم يشعر بها، مع أنها صريحة في الشاطبية وفي كل كتاب من كتب أهل الأداء، فلا يغتر عاقل بإجماع الناس على أمر، فعليك بالحق واتباعه، واعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال، والزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين". وكثير من مثل هذا من الاعتراض على ما جرى به العمل في القراءة والرسم وغير ذلك مما نقف عليه في "الفجر الساطع" وبيان الخلاف والتشهير". والقول والفصل" و"الإيضاح" وعلم النصرة" وغيرها من كتبه.
الفصل الثالث:
أثر ما انتهى إليه ابن القاضي
من القول بالجواز وإسناد ذلك إلى أبي عمرو الداني:
ولنتابع الآن أثر هذه الدعوى في ساحة الإقراء لنرى كيف اغتر بها طائفة من المشايخ وتدرعوا بها للدفاع عن مذهب الإبدال المحض، وكيف تصدى آخرون بحق لإدحاضها وتفنيد مستنداتها.
فأما على المستوى الأول فنقف على صورة منه عند الشيخ أبي سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي الرحالة صاحب الرحلة المشهورة ب"ماء الموائد" (ت 1090) وهو من تلاميذ أبي زيد بن القاضي وممن سلك سبيله في الجواز () وقد نقل القول بالجواز إلى بعض أئمة الإقراء بالمشرق ونقل له عن شيخه ما يقيم به البرهان على دعواه فقبل منه. يقول في كتاب رحلته وهو بصدد الحديث عمن لقيهم من شيوخ القراءة بالمسجد النبي فيذكر الشيخ أبا الحسن علي بن محمد الزبيدي:
¥