والصواب القطع بخطأ هؤلاء، وأن البسملة آية من كتاب الله، حيث كتبها الصحابة في المصحف، إذ لم يكتبوا فيه إلا القرآن، وجردوه عما ليس منه، كالتخميس والتعشير وأسماء السور؛ ولكن مع ذلك لا يقال هي من السورة التي بعدها، كما أنها ليست من السورة التي قبلها، بل هي كما كتبت آية، أنزلها الله في أول كل سورة، وهذا أعدل الأقوال الثلاثة في هذه المسألة.
وسواء قيل بالقطع في النفي أو الإثبات، فذلك لا يمنع كونها من موارد الاجتهاد التي لا تكفير ولا تفسيق فيها للنافي ولا للمثبت، بل قد يقال ما قاله طائفة من العلماء: إن كان واحد من القولين حق، وأنها آية من القرآن في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يفصلون بها بين السورتين، وليست آية في بعض القراءات، وهي قراءة الذين يصلون ولا يفصلون بها بين السورتين. .
وأما قول السائل: ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء، فيما احتمله خط المصحف؟ فهذا مرجعه إلى النقل واللغة العربية؛ لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله، إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه، بل القراءة سنة متبعة، وهم إذا اتفقوا على اتباع القرآن المكتوب في المصحف الإمامي، وقد قرأ بعضهم بالياء وبعضهم بالتاء لم يكن واحد منها خارجًا عن المصحف.
ومما يوضح ذلك: أنهم يتفقون في بعض المواضع على ياء أو تاء، ويتنوعون في بعض، كما اتفقوا في قوله تعالى: ... وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ في موضع وتنوعوا في موضعين، وقد بينا أن القراءتين كالآيتين، فزيادة القراءات كزيادة الآيات، لكن إذا كان الخط واحدًا، واللفظ محتملا كان ذلك أخصر في الرسم.
والاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن ربي قال لي: أن قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب! إذًا يثلغوا رأسي- يشدخوا- فقال: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظانَ، فابعث جندًا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأَنفق أُنفق عليك.
فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال كما جاء في نعت أمته: أناجيلهم في صدورهم، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرؤونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب.
وقد ثبت في الصحيح أنه جمع القرآن كله على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة، كالأربعة الذين من الأنصار، وكعبد الله بن عمرو، فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف.
وكذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة، التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراء- كالأعمش ويعقوب، وخلف وأبي جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح ونحوهم- هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده، كما ثبت ذلك.
وهذا- أيضًا- مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام، الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، هل هو بما فيه من القراءات السبعة، وتمام العشرة، وغير ذلك، هل هو حرف من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها؟ أو هي مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين: والأول قول أئمة السلف والعلماء، والثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم، وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضًا، خلافًا يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا كما تصدق الآيات بعضها بعضًا.
وسبب تنوع القراءات فيما احتمله خط المصحف، هو تجويز الشارع وتسويغه ذلك لهم؛ إذ مرجع ذلك إلى السنة والاتباع، لا إلى الرأي والابتداع.
أما إذا قيل: إن ذلك هي الأحرف السبعة فظاهر، وكذلك بطريق الأولى إذا قيل: إن ذلك حرف من الأحرف السبعة، فإنه إذا كان قد سوغ لهم أن يقرؤوه على سبعة أحرف كلها شاف كاف مع تنوع الأحرف في الرسم، فلأن يسوغ ذلك مع اتفاق ذلك في الرسم وتنوعه في اللفظ أولى وأحرى.
¥