وراح يُعيد البناء ويُقدم اجتهادات غير مسبوقة في هندسته وكيفية إقامته؛ انطلاقا من استيعاب المطلوب وتحليله من جميع وجوهه، وتشريحه وتقويمه على مقتضى ما صح عنده.
ود. طه عبد الرحمن قَدم في مشروعه ما به اتضح أنه يختلف عن غيره. ويُقرر في مشروعه أن قيمة الاختلاف بين فلسفات الأقوام، تُصان بها الجماعة البشرية وتتقوى، وخاصة حين يصبح ذلك الاختلاف بمثابة ميثاق فلسفي بين الأقوام؛ فيكون لكل قوم حقهم في التفلسف والاجتهاد في تحقيق ذلك الحق وإثباته. وقد حدد د. طه في كتابه:
الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ط1، 2002)،
مظاهر الاختلاف وأسبابه وما يُعترضه من تحديات.
(4)
إنجاز وسيلة التحرر من الفلسفة الغربية، أو قل إنجاز ذلك الاختلاف على أرض الواقع وبكيفية تطبيقية.
ومن أجل أن يتحررالمتفلسف العربي، من تقليد الفلسفة الغربية، دعاه "أن يهيئ من الآن اختلافه الفكري، ويضع أصوله ويبني مناهجه؛ بما يجعل للأمة إسهاما متميزاً في هذا المعترك الفكري المقبل" (11).
(5)
تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول الإسلامي: وتقريبها يتم عن طريق"تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة" (12).
ب - كيف هيأ د. طه اختلافه الفكري؟
(1)
من حيث الأصول والمنطلقات المعرفية:
نجده قد هيأه من داخل المجال التداولي الإسلامي،
فجدد صلة الآلة المنطقية بالفلسفة،
وبسط نظرية تكاملية بناء على حقيقة التداخل بين المعارف الإسلامية.
وظل يُؤسس لرؤية مغايرة لما تتطارحه الأقلام في مجالات الفلسفة؛ مما هو متداول في الساحة الفلسفية لدى الغربيين.
وقد سعى في مشروعه إلى تأصيل رؤية أخلاقية، بل ويمكن القول إن مشروعه أساسه الأخلاق؛ وهو أساس يفتقده الغرب في اندفاعاته نحو الحداثة بدون ضوابط أخلاقية. وتفتقده الفلسفات الغربية الحديثة بتصوراتها لعقلانية غير مشروطة، وتفتقده الدول التي ارتهنت لغيرها، وربطت مصيرها الفكري والحضاري به، وتفتقده الدول التي تتحدث عن تخليق السياسة والحياة العامة، بعد أن افتقدت تخليق الحياة الخاصة.
(2)
ومن حيث المنهجية:
1 - تأصيل مفاهيم فلسفية موصولة بالمجال التداولي الإسلامي ومطبوعة بالقيم العملية التي تميز هذا المجال؛ أي إنشاء مفاهيم فلسفية نابعة من مجاله الخاص. ويتم ذلك كله من خلال "كتابة تزدوج فيها الفلسفة بالمنطق؛ باعتباره، المنهج الذي يوصلها إلى الحقائق التي تطلبها" (13).
2 - والارتقاء بالمفاهيم الطبيعية إلى رتبة المفاهيم الصناعية عن طريق الاستدلال بها، وجعلها مفاهيم مشروعة ومًنتجة.
3 –إبداع عتاد اصطلاحي يمكن المتفلسف العربي من إنتاج خطاب فكري مستقل. وفي كتابه القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل قدم كيفية صناعة المفاهيم الفلسفية. يقول:
" آن الأوان لكي نخوض معركة اصطلاحية نواجه فيها مصطلحات الفضاء الفلسفي المتهوِّد بمصطلحات تدفع عنا شروط التهويد ( ... )
فإن قوة الاصطلاح غدت لا تقل عن قوة السلاح " (14).
4 –الجرأة في استثمار ما تقرر في مجال الفلسفة بما ينسجم مع المجال التداولي الخاص؛ وذلك بنقد المفاهيم وتصحيحها، وتوجيهها توجيها إسلاميا يضاهي به الباحث ما لدى الآخرين من تصورات.
ففي كتبه عامة تجده ينقد العقلانية الغربية، ويبين مظاهر النقص التي تشوبها، وما فهمه المنظرون لها من أهل الإسلام. وتجده يقوّم تلك الحضارة على مقتضى عقيدته بنفس عزيزة تأبى الخنوع لغير صوت الوحي، وبكبرياء العالم المتمكن من أدواته الفكرية والمنهجية، فتراه في مواقفه كلها صلبا لا يلين ولا يستكين، ولا يتخاذل فيما يؤمن به ويدافع عنه بقوة أهل اليقين.
جـ – فكيف الخروج من التبعية والتقليد؟
(1)
بفتح عهد جديد في الممارسة الفلسفية،
أي بوضع فلسفة عربية حية خالية من آفات ثلات: التغريق والتغريب والتهويد. أي إيجاد أصول فلسفية تختلف عن أصول الفلسفة المنقولة.
فلسفة تتجدد بها صلة العبد بربه، وهو أمر لم تقم عليه فلسفة من قبل.
فلسفة تُكسب المتلقي لها القدرة على الإبداع. ولا يتم هذا الفتح إلا بتحرير القول الفلسفي من الأساطير التي علقت به (15).
(2)
بتجديد الفكر الديني الإسلامي
على مقتضى تراثه وواقع الأمة التي تدين بدين الإسلام وآفاق هذه الأمة في المستقبل. وبإثبات الحضور الإسلامي في معترك الحياة المعاصرة؛ حضوراً به تتجدد به هوية الأمة، وتثبت به كينونتها وتتقوَّي به فتوتُها أمام التحديات المعاصرة؛
حضوراً يقوم على الالتزام بمنهج الله تعالى في الحال والمآل.
كما تتقوَّى به في مواجهة الحداثة الغربية وهي مواجهة لا تتم إلاَّ بفهمها واستيعاب آلياتها (16).
(3)
بالقدرة على التصرف في المنقول،
فالتفلسف الحي عنده"يتميز بالتصرف في المنقول الفلسفي؛ صورةً ومحتوىً، كما يتميز بإسناد الوصف الفلسفي لما قد يُخالف هذا المنقول؛ إنْ في إشكالاته أو في استدلالاته" (17).
ويلاحظ القارئ لمشروعه أنه كان له اقتدار حقا على"استثمار المنقول بما يُغير أوصافه وأحواله" (18).
(4)
بإزالة عائقين:
عائق الترجمة، وعائق تصور القول الفلسفي؛ ولإزالة هذين العائقين وضع القاعدة الأولى من (فقه الفلسفة) لتأصيل نظرية في الترجمة. والقاعدة الثانية للكشف عن تعايش العبارة والإشارة في القول الفلسفي.
(5)
بعودة العقل إلى كماله، حين لا يتنافى مع الغيب،
وحين يتحرر الإنسان من غفلته ويتحرر من سيطرة ضلالاته وغرائزه، ويُدخل في سعادة العبودية لرب العباد.
ومن هنا يتم تأصيل برنامج إسلامي عربي من خلال رؤية نقدية واعية ودقيقة.
(6)
بالدعوة إلى حضارة الفعل،
والحد من هيمنة القول على الفعل. أن يتحد النظر بالعمل، وأن ترد النفوس مورد الربوبية فتصدر عنها مظاهر التجديد. وعليه يتم ربط السلوك بالممارسة الفلسفية، أي الاحتكام إلى الأفعال في مقابلتها بأبنية العقل المجرد.
(7)
بمواجهة الآفات الخلقية لحضارة الغرب الحديث
بالكشف عن خلفياتها، وعرض مفاهيمها على معيار الآلة المنطقية بما يخدم الحقيقة. وبمواجهة تلك الخلفيات بقيم أقوم.
(8)
بمواجهة صريحة للذين يخاصمون الحقيقة الدينية ممن انبهروا بحداثة الغرب.
¥