تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

" أقبلنا على تحصيل المناهج العلمية في أصولها المنطقية وآلياتها الإجرائية حتى تكونت لدينا القدرة على انتهاج طرق في البناء والترتيب تستوفي الشروط النظرية المطلوبة، وصار عندنا النهوض بإبطال أدلة خصوم العقيدة أمرا يسيرا هينا. وتولد عندنا، نتيجة جانب التجربة وجانب التعقل في ممارستنا الخُلُقية والعلمية، فكر ديني متكامل ومتجدد" (35).

وحين تغلغلت التجربتان في نفسه وتساوتا لديه، لم يستشعر تناقضا بينهما، كما استشعرها غيره نظريا وعمليا؛ أحس د. طه بفداحة المسؤولية أمام المفكر الذي يقضي حياته في القول والتقول بدون عمل.

فأبدى من الجرأة في طلب الحق ما لم يُعرف مثله عند ذوي التفلسف.

وسعى في مشروعه إلى توطيد الصحوة الإسلامية التي شهدها الثلث الأخير من القرن العشرين، وعمل على تحصينها من أشكال التحامل والإقصاء والنسف، وأقام اليقظة عن طريق التجربة الحية والتعقل الخصب. وظل يدعو في مشروعه إلى

"معرفة تصل العقل بالغيب وتصل العلم بالعمل" (36). وقدم في كتابه تجديد المنهج صيغة

لتكامل العقلانية (بعد تجريدها من أوهامها) والروحانية (بعد إعادة صياغة بنائها).

(2)

حدد أصوله ومنهجه، وتمسك بوحي السماء؛ فهانت عليه أوهام أهل الأرض.

كشف في مشروعه عن إيمانه، وهو أمر غير معهود عند أهل التفلسف؛ إما تقيةً أو تظاهرا بالحداثة في التفلسف، أو إلحادا صراحا.

أما د. طه فيقول:

" الإيمان العظيم يورث التفلسف العظيم، والتفلسف العظيم يثبت الإيمان العظيم" (37)،

ويكشف عن إيمانه فيقول:

" ونحن لنا الفضل في أننا لا نتستر على إيماننا أو نتذبذب فيه فيما نكتب كي نُنسَب إلى الحداثة، ولو أننا تزودنا من أسبابها بما لم يتزود به هذا الذي لم يتجرد من أصيل إيمانه إلا ليتقلد إيمان غيره، عَلِمَ أمْ لمْ يعلم " (38).

(3)

انفتح في ثقافته على ميادين الثقافة الغربية، واكتسب معرفة قوية بمناهج البحث، وله معرفة بلغات لا يزاحمه فيها إلا أقل من القليل،

وقد اتضح لي من خلال مصادره ومراجعه أنه

على إلمام واسع باللغات، منها: اليونانية، اللاتينية، الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية.

حين قرأ ثقافة الغرب، لم ينبهر بها، ولم يقع في شراكها، ولم يجعل نفسه سجينا لها، ولم يذُب في تلقيه لها على مقتضى مناحي التفكير عند أهلها.

حين قرأ ثقافة الغرب ازداد معرفة بحقيقة تراثه، وزاده علمه إيماناً ويقينا، ومنحه عزة نفس تأبى عليه أن يمتهن كرامته في التقلبات الفكرية بدعوى التفاعل مع المناهج الحديثة. فقد وجد أن مكمن الخطأ في مقلدة العصر من متفلسفتنا ومفكرينا يتجلى في تقلباتهم الفكرية في كل الاتجاهات، وفي اندفاعهم

" في تقليد فلاسفة الغرب الذين يصدرون في إنشاء أفكارهم عن أسباب لا وجود لها عندنا" (39).

وكيف تم له تجاوز البناء النظري للفكر الغربي الحديث؟

يقول إن ذلك يتم بـ "تحصيل القدرة على فك مفاصل البناء النظري المعقول وإعادة تركيبها بفضل عمليات تحويلية متعددة تدخل على المفاهيم والأحكام" (40). وبذلك استطاع أن يُقدم رؤية مغايرة لرؤية الغرب.

ووجد نفسه يرفض أن يخوض فيما يخوض فيه غيره.

فقد تمرد على الحضارة الغربية وذهب في تمحيص مقولاتها كل مذهب.

وكتبه اليوم فيها إدانة لهذه الحضارة التي غررت بأهلها فقادتهم إلى التسلط والطغيان والظلم والفساد في الأرض.

(4)

طالب بحقه في الإبداع، أراد أن يأتي بما لم تأت به الأوائل،

على حد قول أبي العلاء؛ فعاداه من عاداه. وحين طلب حقه في الإبداع لم يرده خالصا لنفسه؛ بل أراد أن يكون لأبناء جلدته حقهم الطبيعي في الإبداع الفلسفي؛ فهو لا يرضى لهم أن يكونوا نُسَخاً "كارْبونية" من غيرهم، يسيرون في أنفاق التبعية، لا يُبدعون ولا يجتهدون.

وغايته، من مشروعه، كما اتضح لي، أنه يريد أن يُقدم نموذجا من التفلسف يُضاهي به ما تقرر عند أهل التفلسف، وأضحى من"المسكوكات". غايته أن يتفلسف على مقتضى خصوصيته الثقافية.

(5)

تمرد على الحضارة الغربية وواجهها بالحوار وبالتقويم.

فبالرغم من تكوينه في ديار الغرب، واستفادته من فكره، قديمه وحديثه؛ إلا أن تلك الحضارة لم تلتهم كيانه في لحظة التكوين، ولم يتضاءل أمامها، ولم ينخدع ببريقها، أو يتساقط أمام إغراءاتها، ويتصاغر أمام ادعاءاتها.

تجده يكشف عن ضلالاتها وأزماتها وآفاتها؛ وإنقاذاً للهائمين في عشقها، المتهالكين على بريقها، الواقعين في أحابيلها؛

يتصدى لتقويمها على مقتضى عقيدته الإسلامية، في لحظة يزداد فيها صلف المستكبرين في الأرض بغير حق ويتجرع فيها الذلة والمسكنة المنتمون إلى الإسلام، وتتمدد فيها خريطة أهل النفاق والخيانة والارتشاء. فتزداد التبعية والتواكل والخذلان. وتُحاصر أفكار الشعوب بما يُبقي على مصالح الغرب ويضمن له الهيمنة على المعمور.

(6)

ربط القول بالعمل أي أنه ربط الفلسفة بالسلوك؛

فجعل المتفلسف محط النظر، لا يَسأل فقط، بل يُسأل. ولا قيمة لأقواله ما لم تتوافق مع مضامين كلامه؛

"إذ ليس في الناس أحد أشد حاجة إلى أن يُصدق فعلُه قولَه، ولا أن يُوافق قولهُ فعلَه من الفيلسوف" (41).

فالسلوك هو خير محك لاختبار صدق ما يدعيه الفيلسوف. وقال

إن المعرفة الإسلامية " تصل العقل بالغيب، وتصل العلم بالعمل"،

واعتبر المعرفة الغربية "معرفة تقطع العقل عن الغيب، وتفصل ما بين العلم والعمل" (42).

والفلسفة عنده خطاب مزدوج بالسلوك؛ ولهذا وقع اختياره على اسم (فقه الفلسفة) لأن لفظ الفقه اشتهر بالجمع بين إفادة العلم وإفادة العمل. ومفهوم الفلسفة القومية الحية عنده تقوم على العمل الثابت الشامل لجميع أفراد القوم والمتواصل وفق القيم العليا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير