تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبعد ذكر ابن القيم رح1 هذه الأقوال في الفُتُوَّة, ساق قصصاً وأخباراً في هذا القبيل نذكرمنها: "قيل: تزوج رجل بامرأة, فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال: اشتكيت عيني, ثم قال: عميت, فبعد عشرين سنة ماتت, ولم تعلم أنه بصير, فقيل له في ذلك, فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها, فقيل له: سبقت الفتيان "

ومن الفُتُوَّة التي لا تلحق: ما يذكر أن رجلاً نام من الحاج في المدينة, ففقد همياناً (شداد السراويل والمنطقة وكيس للنفقة يشد فى الوسط) فيه ألف دينار, فقام فزعاً, فوجد جعفر بن محمد, فعلق به, وقال: أخذت همياني, فقال: أي شيء كان فيه؟ قال: ألف دينار, فأدخله داره, ووزن له ألف دينار, ثم إن الرجل وجد هميانه, فجاء إلى جعفر معتذراً بالمال, فأبى أن يقبله منه, وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبداً, فقال الرجل للناس: من هذا؟ فقالوا: هذا جعفر بن محمد رح1 ".

مراتب الفُتُوَّة:

هذا وإن الفُتُوَّةَ مراتبُ, ودرجاتٌ, وقد أشار إلى شيء من ذلك الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في شرح منازل السائرين لأبي إسماعيل الهرويرح1.

قال ابن القيم رح1: " قال صاحب المنازل: "ونكتة الفُتُوَّة ألا تشهد لك فضلاً, ولا ترى لك حقاً".

يقول: قلبُ الفُتُوَّةِ, وإنسانُ عينها: أن تفنى بشهادة نقصك, وعيبك عن فضلك, وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم.

والناس في هذا مراتب فأشرفها: أهل هذه المرتبة, وأخسها: عكسهم, وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم, وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم.

وأوسطهم: مَن شَهد هذا وهذا, فيشهد ما فيه من العيب والكمال, ويشهد حقوق الناس عليه، وحقوقه عليهم".

إلى أن قال رح1 متحدثاً عن درجات الفُتُوَّة: " قال - أي أبو إسماعيل الهروي-: " وهي على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: ترك الخصومة, والتغافل عن الزلة, ونسيان الأذيّة ".

ثم شرع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: " هذه الدرجة من باب الترك والتخلي, وهي ألا يخاصم أحداً, فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غيرها؛ فهي خصمه ".

وهذه المنزلة - أيضاً- ثلاث درجات, لا يخاصم بلسانه, ولا ينوي الخصومة بقلبه, ولا يُخْطِرها على باله, هذا في حق نفسه.

وأما في حق ربه: فالفُتُوَّة أن يخاصم بالله وفي الله, ويحاكم إلى الله, كما كان النبي صل1 ? يقول في دعاء الاستفتاح: " وبكَ خاصَمْتُ وإليك حاكمتُ " البخاري (1104) مسلم (1758).

وهذه درجة فُتُوَّة العلماء الدعاة إلى الله.

وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها أظهر أنه لم يَرَها؛ لئلا يعرض صاحبها للوحشة, ويريحَه من تحمل العذر.

و فُتُوَّة التغافل: أرفع من فُتُوَّة الكتمان مع الرؤية.

قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة؛ فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة, فخجلت, فقال حاتم: ارفعي صوتك؛ فأوهمها أنه أصم؛ فسُرَّت المرأة بذلك, وقالت: إنه لم يسمع الصوت؛ فَلُقِّب بحاتم الأصم, وهذا التغافل هو نصف الفُتُوَّة.

وأما (نسيان الأذية) فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى؛ ليصفو قلبك له, ولا تستوحش منه.

قلت: وهنا نسيان آخر - أيضاً - وهو من الفُتُوَّة, وهو نسيان إحسانك إلى من أحسنت إليه؛ حتى كأنه لم يصدر منك, وهذا النسيان أكمل من الأول, وفيه قيل:

ينسى صنائعه والله يُظهرها إنَّ الجميلَ إذا أخفيتَه ظَهرا"

ثم ساق ابن القيم كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان الدرجة الثانية من درجات الفُتُوَّة, وهو قوله: "الدرجة الثانية: أن تُقَرِّب من يقصيك, وتُكرم من يؤذيك, وتعتذر إلى من يجني عليك, سماحة لا كظماً, ومودة لا مصابرة".

ثم شر ع ابن القيم في شرح هذه الدرجة قائلاً: " هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب؛ فإن الأولى: تتضمن ترك المقابلة والتغافل, وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك, ومعاملته بضد ما عاملك به؛ فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطَّتين, فخطتُك: الإحسان, وخطَّته: الإساءة, وفي مثلها قال القائل:

إذا مَرضنا أتيناكم نعودُكم وتُذنِبون فنأتيكم ونَعْتَذِرُ

ومن أراد فَهْم هذه الدرجة كما ينبغي, فلينظر إلى سيرة النبي صل1 (مع الناس يَجدْها هذه بعينها, ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه, ثم للورثة منها بحسب سِهامهم من التركة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير