وأما نصرة الدين بالمال: فقد أنفق الصديق، رضي الله عنه، وكان من أثرياء قريش، ماله كله في سبيل الله، وقد كان واحدا من أمهر تجار قريش، بل كان أتجرها، كما تقول عائشة، رضي الله عنها، فيما رواه ابن أبي شيبة، رحمه الله، في "مصنفه" من طريق ابن أبي مليكة رحمه الله.
وقد حفظ له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك الصنيع فقال: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ).
والحديث عند الترمذي، رحمه الله، في "جامعه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ويوم أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدقة، جاء الصديق، رضي الله عنه، بماله كله، فكان السابق، كما عهدناه دائما.
يقول عمر رضي الله عنه: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ قُلْتُ مِثْلَهُ قَالَ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ قَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
وهذا لفظ أبي داود، رحمه الله، في "سننه".
يقول البيهقي، رحمه الله، في "شعب الإيمان":
"أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سئل الأستاذ أبو سهل محمد بن سليمان، عن قول النبي صلى الله عليه وسلم، لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: «ماذا أبقيت لنفسك»؟ قال: الله ورسوله، قال: هو التجريد لله بالكلية، وإدخال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيه لمكان الإيمان وحقيقة التعلق بالسبب في الوصول إلى المسبب الأعلى أن عليه انقطاعه، فإذا كمل توكل المتوكل وتحقق فيه أخبر إن شاء، عن السبب وإن شاء عن المسبب لأن الكل عنده واحد لتعلق الفروع في الكل بالأصل"
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، سبب النجاة الذي امتن به الله، عز وجل، على العالمين، فرسالته الخاتمة وشريعته الكاملة سبب النجاة، فبامتثال أمره ونهيه يتوسل المتوسلون إلى رضا الرب تبارك وتعالى.
وثانيها: شجاعة الرأي:
وقد ظهرت شجاعة رأي الصديق، رضي الله عنه، جلية في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان المستشار الأول، بوصفه أكبر رجالات الدعوة سنا وتجربة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان يفتي بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمضي فتواه، فتكون سنة بتقرير صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم نطقا أو سكوتا، فالسكوت في موضع البيان بيان كما قرر الأصوليون.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان له الدور البارز، الذي حفظه لنا التاريخ الموثق، في حروب الردة، فرأى بشجاعة رأية المصلحة في قتال مانعي الزكاة، لئلا يتساهل الناس في دين الله، فيكون إسقاط الزكاة أول الوهن فيه، فلن يقتصر الأمر على ذلك، بل سيطمح الطامحون إلى ما هو أبعد من ذلك، فبعد الزكاة: الصوم والحج والصلاة فتنقض عرى الدين عروة عروة بالتهاون في أمر الزكاة.
ولذلك أعلنها الصديق رضي الله عنه صراحة لا مداهنة فيها: "هذا من حقها، (أي: أمر الزكاة من حق كلمة التوحيد)، أرأيت لو سألوا ترك الصلاة؟ أرأيت لو سألوا ترك الصيام؟ أرأيت لو سألوا ترك الحج؟، فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت".
نقلا عن "الأحكام السلطانية" للماوردي رحمه الله.
¥