وكان شعار الصديق في تلك المحنة: "أينقص الدين وأنا حي؟ "، ولم يلتفت إلى نداءات التهدئة، بل مضى في حرب المرتدين بعزم وحزم، مستندا إلى قياس الزكاة على الصلاة فهي قرينتها في الكتاب المنزل، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربية، (وفي رواية: عرينة)، ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا. وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم". اهـ
نقلا عن "الكامل في التاريخ" لابن الأثير رحمه الله.
ويقول ابن المديني رحمه الله:
"أيد الله تعالى هذا الدين برجلين لا ثالث لهما: أبو بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة".
ويقول المزني تلميذ الشافعي رحمهما الله: "أبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم صفين، وأحمد بن حنبل يوم المحنة". اهـ
وكان من شجاعة رأي الصديق، رضي الله عنه، قبل ذلك أن أمضى بعث أسامة، رضي الله عنه، فلم يلتفت إلى قول من أشار باستبقائه دفاعا عن المدينة، بل قالها في صراحة وعزم لا تقل عن صراحته وعزمه يوم الردة: "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته". اهـ
ولله در المتنبي إذ يقول:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ******* هو أول وهي المحل الثاني
فهل بعد هذه الشجاعة شجاعة؟!!!.
وثالثها: شجاعة البدن:
فهي فرع على شجاعة القلب، فليست أصلا، كما تصور كثير ممن اغتر بمعطيات الحياة المادية المعاصرة، فكم من أجساد ضخمة قلوب أصحابها بين أجنحة الطير، تفزع لأصغر نازلة، وقد تميز أمثال علي، رضي الله عنه، بشجاعة القلب والقالب، فكانت شجاعتهم في القتال فرعا عن شجاعة قلوبهم وثبات جنانهم وعظيم إيمانهم، فلم يكن الأمر قوة في الجسد وحسب.
ولابن حزم، رحمه الله، تحقيق بديع لهذه المسألة في "الفصل" نقله عنه ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان منزلة الكرم والشجاعة في نصرة الملة، فلا ينصر هذا الدين ببخيل أو جبان.
&&&&&
وأما مواجهته الشرعية:
فقد تمثلت في عظم فقهه، إذ خفي عنهم حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)، وهو نص في محل النزاع: قتال مانعي الزكاة الذين وقع الخلاف في جواز قتالهم، لكونهم غير منكرين للشهادة، غير معطلين للصلاة، وإنما امتنعوا عن دفع الزكاة تأولا لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)، فجعلوا الخطاب خاصا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفظا ومعنى، والصحيح أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفظا لكون الخطاب موجها إليه ابتداء، ولا يلزم من ذلك عدم توجهه إلى من يخلفه في منصب الإمامة، فهي متعلق الحكم، وإنما يصح تأويلهم لو كان متعلق الحكم منصب النبوة، إذ لا نبي بعده، بخلاف الإمامة، فهي من الفروض الكفائية على الأمة، بل والعينية على فئة منها يناط بها أمر اختيار الأئمة وتنصيبهم، على تفصيل ليس هذا موضعه، ودخول فرد من أفراد العموم تحت الحكم، لا يلزم منه منع بقية الأفراد، فالمسألة من مسائل: ذكر بعض أفراد العام، إذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرد من عموم الأئمة، فذكره لتعلق الخطاب به لا يخصص عموم النص، ويقال من جهة أخرى: ذكر حكم فرد من أفراد العام لا يعني إثبات نقيضه لبقية الأفراد، إذ لا مفهوم له، فلا يقال بأن النص على
¥