ولعل الله، عز وجل، حجبه عنه ابتداء إظهارا لسعة علمه وعظيم فقهه وجودة رأيه الذي وافق نص المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي حسم بها الصديق، رضي الله عنه، بعلمه الغزير خلافا وقع بين الصحب، رضي الله عنهم، فقد اختلفوا في دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأفتاهم الصديق بدفنه حيث قبض، واختلفوا في مسألة الإمامة يوم السقيفة، فأفتاهم أن الأئمة من قريش، وخفي عن فاطمة، رضي الله عنها، حكم ميراث الأنبياء حتى بينه لها الصديق، رضي الله عنه، فلم تكذبه، فهو الصداق البار، رضي الله عنه، وإنما وجدت في نفسها ما لا يسلم منه بشر وليست، براجية عصمة، رضي الله عنها، وقد تعددت روايات ذلك الحديث عن جمع من الصحب، رضي الله عنهم، منهم زوجها أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، ولو لم يرد إلا عن الصديق ما وسعنا إلا قبوله، فكيف وقد ورد عن غيره بما فيهم زوج فاطمة رضي الله عنها؟!.
ولو هادن الصديق، رضي الله عنه، في مسألة الزكاة ما اكتفى القوم بذلك، فبعد الزكاة الحج، وبعد الحج الصيام ................ إلخ فتنحل عرى الملة عروة عروة كما سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك.
&&&&&
وأما مواجهته الميدانية:
فتتمثل في خطة حربية محكمة لقتال المرتدين هي بحق مما يبهر كبار القادة العسكريين، في عصرنا الحاضر، رغم أن الصديق، رضي الله عنه، وإن كان من كبار المجاهدين في سبيل الله منذ أيام الدعوة الأولى، لم يكن من القادة الذين سارت بذكرهم الركبان، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وتتلخص خطته فيما يلي:
أولا: إنفاذ بعث أسامة، رضي الله عنه، رغم حاجة المدينة الشديدة، لهذا الجيش، فالأعداء قد حاصروها من كل جهة، بل واستعد بعضهم لعزوها، ولكنهم لما رأوا جيش أسامة، تراجعوا عن مخططاتهم، لأن من يبعث جيشا بهذا التجهيز، يبعد أن يكون ضعيفا بما يكفي لاجتياحه.
ثانيا: بعث الرسل إلى القبائل المرتدة، وهو ما أسماه المؤرخون بـ: "حرب الرسل"، ناصحا إياهم بالتراجع عن موقفهم والعودة إلى دين الله عز وجل.
ثالثا: عدم المفاوضة في قضية منع الزكاة، لأنها من أصول الدين، فلو هادن الصديق، رضي الله عنه، فيها، لما اكتفى القوم بذلك ولانفرط عقد الدين.
رابعا: تأمين حدود المدينة، بعد مغادرة وفد المرتدين، لما لمح في أعينهم الغدر، حيث أمر الناس بالتجمع في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع، (هو ما يعرف في المصطلح العسكري الحديث بـ: "التعبئة العامة")، ووضع فرق المراقبة والدفاع على أبواب الطرق المؤدية للمدينة، وعين عليها أربعة من الصحابة هم: علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعا.
خامسا: التصدي بنجاح لهجوم المرتدين على المدينة، بل قام المسلمون بهجوم مضاد، قتل فيه قائد المهاجمين "جبال بن خويلد" أخو "طليحة"، رضي الله عنه، وكان آنذاك مدعيا للنبوة، وتتبع الصديق، رضي الله عنه، المرتدين، حتى نزل بـ "ذي القصة"، فكان لهذا الانتصار أبلغ الأثر في ردع من تسول له نفسه الهجوم على المدينة.
سادسا: البدء في الهجوم الشامل على المرتدين، بعد زوال خطر الهجوم على المدينة، قبل أن يجمع المرتدون قواهم، إذ لم يمض على ردتهم إلا ما يقرب من ثلاثة أشهر، وهي فترة غير كافية لإعداد العدة للهجوم الشامل على المدينة، وعليه فإن مبادرتهم بالهجوم خير وسيلة للدفاع.
سابعا: تجهيز أحد عشر جيشا، لهذه المهمة، بحيث تتناسب في قوتها مع قوة القبائل المرتدة التي وجهت إليها.
ثامنا: انطلاق الجيوش في وقت واحد، بحيث تتساند وتتكامل فيما بينها في نظام محكم دقيق لا يعطي للأعداء أية فرصة للتوحد أو التجمع ضدها، ومن أبرز صور هذا التنسيق: أن الصديق، رضي الله عنه، لما استعجل عكرمة بن أبي جهل، رضي الله عنه، قتال مسيلمة، قبل أن يصل المدد بقيادة شرحبيل بن حسنة، رضي الله عنه، فلحقت به الهزيمة، نهاه أن يعود إلى المدينة منهزما لئلا يوهن أمر الناس، وأمره أن يتجه لمساندة جيوش المسلمين في قتال المرتدين بعمان، وكتب إلى شرحبيل يأمره بانتظار قدوم خالد إليه ليقود الجيش الإسلامي في معركة
¥