فليس علينا إلا فغر الأفواه انبهارا بمدنية الغرب التي أحلت الشعب محل الإله، فهو الحاكم بأمره، وإن نقض الوحي والعقل والفطرة بحكمه.
يقول كارل بيكر:
"كان كل رجل أيا كانت المملكة التي يعيش فيها يدين بالولاء والطاعة للكنيسة ورجالها في الأمور الدينية كما كان يدفع للكنيسة مكوسا معينة فضلا عن تقاضيه أمام محاكمها التي لها أيضا اختصاص توقيع العقوبة عليه في جرائم معينة. ولكنه كان يدين في الوقت ذاته بالولاء والطاعة لحكومة بلاده المدنية فكان يدفع لأمير المقاطعة أو للملك ضرائب أخرى معينة وكان يتقاضى أمام محاكم الأديرة أو الملك كما كانت هذه المحاكم توقع عليه العقوبة لارتكابه جرائم معينة وهكذا كان أمرا مقضيا أن ينشب النزاع بين هاتين السلطتين التي تطالب كل منهما الناس بواجب الولاء لها ولم يكن تاريخ غرب أوروبا طيلة العصور الوسطى وفي كل جزء من أجزائه إلا تاريخا لهذا الكفاح المستمر بين الكنيسة والدولة".
(أي الصراع بين الدين والدولة، كما وقع الصراع بعد ذلك بين: الدين والعلم، وهي صراعات تولدت من كون الدين محرفا فلم تكن له أهلية القيادة إذ وقع في حرج بالغ في إدارة الأزمات السياسية والاجتماعية فضلا عن مناقضته لأبسط القواعد العلمية الحديثة في أمور كـ: نشأة الكون، ودوران الأرض حول الشمس ......... إلخ).
ويقول في موضع تال:
"ولقد تم انتقال السلطان والقوة من الكنيسة إلى الدولة خلال المائة عام التي انقضت في حروب أهلية ودولية بسبب المنازعات الدينية وكانت هذه الحروب كفاحا وحشيا داميا لا يلين ولا يهدأ للظفر بالسلطان السياسي". اهـ
انظر: "العلمانية"، ص232.
فالوطن قبل كل شيء، إذ هو العقد الجديد الذي أراح أوروبا من الصراعات الدينية، ولئن جاز تصور ذلك في مجتمعات لم تعرف الوحي المنزل إلا اسما، فإنه غير متصور في مجتمعات خرجت النبوات من أرضها، فلا تستوي أثينا وروما من جهة، و: مكة والشام ومصر والعراق من جهة أخرى، فمن الأولى خرج: أفلاطون وسقراط وقسطنطين وهرقل، ومن الثانية خرج: محمد والخليل والكليم والمسيح، فليسوا سواء.
و: الحرية الإباحية والمساواة بين المختلفات العقدية التي تحل عرى الولاء والبراء في القلوب: صورة أخرى جذابة من صور العقد الاجتماعي الأوروبي ذي البنية الهلامية غير المتماسكة، فكل الطرق تؤدي إلى روما على طريقة وحدة الأديان، والمعبود حقيقة: "الإنسان السوبرمان"، سيد الكون الجديد، الذي ابتدعه: "نيتشه" اليهودي الهولندي ليكون بديلا عن إله الكنيسة كما سبقت الإشارة إلى طرف من ذلك.
الشاهد أن الكتاب العزيز قد حدد الغاية وشرع الوسيلة:
غاية: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، بوسيلة: (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
فالأولى: "علة غائية"، والثانية: "وسيلة أو علة فاعلية"، وقد قدم العلة الغائية في الذكر مع أنها التالية في الوجود إذ هي فرع عن الوسيلة، قدمها، لأنها المطلوب الأعظم فهي الأسبق في التصور وإن كانت لاحقة في الوجود، فتلك أعظم الغايات إذ لا يوجد مراد لذاته إلا الله، عز وجل، فكل المرادات إنما تكون لغيرها، إلا إرادة المعبود، جل وعلا، فإن توحيده في العلم والعمل: غاية مطلقة.
ولن تتحقق هذه الغاية العظمى إلا إذا خرج العبد من حوله وقوته إلى حول الرب، جل وعلا، وقوته، فلا تحول له عن الضلال إلى الهدى، ولا قوة له على الثبات على الحق إلا إذا خلق الله، عز وجل، في قلبه إرادة الهدى، ويسر له أسبابها، وخلق الطاعة في قلبه وجوارحه بأن أعانه إعانة خاصة لا تكون إلا للمؤمن المسدد، فإذا ثبتت قدمه على الصراط المستقيم في الأولى ثبتت في الآخرة، فله، عز وجل، الفضل والمنة في الأولى والآخرة.
وقد نص الباري، عز وجل، على تلك الغاية فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ).
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى":
¥