فالجلوس على مقعد الرئاسة غاية في حد ذاتها تحاك من أجلها المؤمرات وتسفك الدماء وتحرك الغوغاء ويقاد الجند من الثكنات لينصب الزعيم على سدة الحكم.
وفي ملة الإسلام: الدولة وسيلة لحفظ الدين، فما شرعت الإمامة إلا حفظا للدين وسياسة للدنيا به.
وقد انتقلت أوروبا من نظرية الحق الإلهي إلى نظرية العقد الاجتماعي، فقد ضجت الشعوب بتأله القياصرة والباباوات، فباسم الدين يقرر الطغيان وتصادر القلوب والأبدان، فالبابا يهدد بفيتو الحرمان، والقيصر يحكم بسيف القهر والاستبداد، فانتقلت أوروبا من غلو إلى غلو، فاستبدلت المجتمع بالبابا والقيصر إلها لا شريك له.
يقول صاحب رسالة "العلمانية" في معرض بيان ونقد نظرية "الحق الإلهي":
"في المرحلة السابقة للإسلام كان الملوك يستعبدون الناس لأنفسهم زاعمين أن لهم سلالة عرقية خاصة أسمى من العنصر البشري المشترك، وغلا بعض الطواغيت فادعى أنه إله أو من نسل الآلهة كما فعل أباطرة الروم، ولم يكن ليدور في خلد أى منهم أن للأمة عليه واجبات وحقوقا وأن الكرسي والمنصب تكليف لا تشريف، بل كانوا يرون أن ما تقدمه لهم الأمم من مراسم الخدمة والولاء والخضوع المذل والتضحية بالنفس والنفيس لأجلهم ليس إلا واجبا مقدسا يقومون به تجاه العرش المحروس!
جاء الإسلام فنسف الفكرة من أساسها ورد العبودية كلها لله وحده وفرض على الحكام تبعات ومسئوليات تناسب مركزهم في الأمة فرأى الناس في معظم أنحاء المعمورة الولاة المسلمين يرعون مصالحهم وينهضون بأعباء المسئولية كاملة في الوقت الذي لا يتميزون فيه عن الأمة بكبير فرق.
ولكن الأقطار التي لم يشملها نور الإسلام – لا سيما في أوروبا الهمجية – ظلت ترزح تحت نير الطغاة وظل الفرد الأوروبي عدة قرون يعبد إلهين من البشر: الإمبراطور والبابا. الأول: يدعي أن له الحق في حكم الناس وفق مشيئته ويخضعهم لهواه. والثاني: يبارك خطواته ويلزم الشعب بإطاعته لأن ذلك يأمر به الله وتمليه السماء.
وظلت عروش أوروبا تتوارثها سلالات وعائلات معينة لا يجرؤ أحد أن ينافسهم ولا يستسيغ إنسان أن يسأل لماذا يحكم هؤلاء وبماذا يحكمون؟ فالرعاع كلهم مقتنعون تماما بأنهم يستمدون حكمهم من الله مباشرة!!، (على طريقة الزعماء الملهمين!!) .............. وعلى الرغم من النقد العاصف الذي تعرضت له النظرية من قبل أنصار النظريات الأخرى بسبب تقديسها الزائف للاستبداد – فقد كان لها أثر بالغ لا سيما في نفوس الألمان الذين ظلوا على استعداد للانقياد لحكومة ديكتاتورية يرون فيها تجسيدا لأعلى مثلهم القومية فكان بسمارك في القرن الماضي وهتلر في القرن العشرين.
واشتق منها "ماكس فيبر" نظريته في الـ: "كاريسما" ومعناها – عنده – القوة الخاصة التي منحتها الطبيعة للقلة المختارة للدلالة على الزعماء الذين يقوم نفوذهم على اعتقاد عام عند الناس بأن روحهم من روح الله مثل يوليوس قيصر ونابليون ............ والحق الذي لا مرية فيه أن الحكام الذين مارسوا الطغيان متسترين بهذه الدعوى هم أبعد ما يكون عن تنفيذ القانون الإلهي أي الحكم بما أنزل الله فوق أنهم لا يستطيعون إقامة الدليل على أن الله منحهم الحق في التسلط على الأمم وإذلال الشعوب باسمه.
وواقع التاريخ يؤكد أن العدل الرباني والطغيان البشري نقيضان لا يجتمعان وأن الذين كانوا يحكمون بما أنزل الله فعلاً ويستندون في سلطتهم إلى الوحي الإلهي حقيقة هم أعظم حكام البشرية عدلاً وإنصافاً وأشدهم رحمة وتواضعاً وأنهم بفضل ذلك قد حققوا في دنيا الواقع ما كان الفلاسفة يحلمون به في الخيال وها هي ذي سيرة الأنبياء الذين حكموا بني إسرائيل وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومن حذا حذوهم تظهر فيها الصورة المشرقة والنموذج الرفيع للحكم الأمثل. وعكس ذلك تماما" كان الحكام الطغاة الذين يتبجحون بنظرية الحق الإلهي فهم يمثلون أسوأ النماذج للجبروت والاستبداد.
وهكذا كلما كان الحاكم أقرب إلى الحكم بما أنزل الله كان حكمه أقرب إلى النزاهة والاستقامة وحالت خشية الله بينه وبين أي لون من ألوان الطغيان، وكلما ابتعد عن الحكم بما أنزل الله سقط في مهاوي الظلم وتلطخت صفحة حكمه بصنوف الاستبداد وأنواع الجور".
بتصرف من: "العلمانية"، ص216_219.
¥