ولسان حال ومقال كثير من شيوخ زماننا لسان ابن تولب، فهي لا تعدو كونها: "مراهقة متأخرة"!، أو: "أزمة آخر العمر" على ما فهمته من قوله!.
والشيب مظنة التجربة، فليس سواء شيخ مجرب وحدث لم تعركه الحياة.
فأحدهم يتعجب بعدما لفع الشيب رأسه:
كيف ترجون سقوطي بعدما ******* لفع الرأس بياض وصلع؟!
و:
في الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ******* إذا اشتعلت نيرانه في عذاره.
وقال تائب بعد مجيء النذير:
أَتَيْتُ الذي يأْتي السَّفِيهُ لِغِرَّتي ******* إِلى أَن عَلا وخْطٌ مِن الشيْب مَفْرَقي
وقال النابغة:
دَعاك الهَوى واسْتَجْهَلَتْك المَنَازِلُ ******* وكَيْفَ تَصابي المَرءِ والشَّيْبُ شامِلُ
لا تعجبي يا سلم من رجل ******* ضحك المشيب برأسه فبكى
واشتعل رأس أحدهم بنار الشيب فقال:
لَقَدْ لَبِسْتُ لِهَذَا الدَّهْرِ أَعْصُرَهُ ******* حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا
وفي التنزيل: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)
يقول الألوسي رحمه الله:
وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانياً أو مكانياً يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك: اشتعل بيته ناراً يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته. اهـ
فقد اكتسح الشيب سواد الرأس، فلم يعد لصاحبه إلا دعاء زكريا عليه السلام.
وللأربعين وقع، أي وقع:
أكل الدهر حل وارتحال ******* أما يبقي علي ولا يقيني؟!
وماذا تبتغي الشعراء مني ******* وقد جاوزت حد الأربعين
وفي التنزيل: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ".
فذكر عز وجل أن من بلغ أربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها.
قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا، وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت.
وفي تفسير قوله تعالى: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر":
روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه أربعون سنة.
يقول القرطبي رحمه الله:
ولهذا القول أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة" [الأحقاف 15] الآية.
ففي الأربعين تناهي العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه، والله أعلم.
وعن الستين:
قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر": إنه ستون سنة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في موعظته: (ولقد أبلغ في الإعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير").
وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر").
وترجم البخاري رحمه الله: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل: "أولم نعمركم ما يتذكر قيه من تذكر وجاءكم النذير" يعني: الشيب)
وروى عن عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً"
قال الخطابي: "أعذر إليه" أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد
أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته.
¥