وأشهد أنّي سافرت معه ووقفت على كلّ هذا، فهو يصرّ على أن نكون في المطار قبل ساعات من موعد إقلاع الطائرة، حتّى أنه في مرّة من المرات كنا سنسافر من كينيا إلى أوغندا فذهب بنا أبو عليّ إلى المطار قبل ست وعشرين ساعة!!!!!! أجل قبل ست وعشرين ساعة لا دقيقة!!!! فنحن حينما وقفنا أمام موظف الخطوط الكينيّة في مطار نيروبي، ونظر الموظف في تذاكر السفر، قال لنا: رحلتكم غداً، وليست اليوم، بل ليس في هذا اليوم رحلة إلى كمبالا (عاصمة أوغندا).
على كلّ حال: حين نزلنا من الطائرة في سنغافورة وجدنا رئيس الجمعيّة الإسلامية وبعض مسؤوليها في مطار سنغافورة، وقد أحضروا حافلتين صغيرتين لنقلنا إلى الفندق الذي اخترناه للإقامة، واسمه (باننسويلا)، وهو فندق كان في ذلك الوقت جديداً جداً، ويقع في منطقة تجاريّة جميلة مع أنها مزدحمة (شنشالي).
نزلنا ضحى في الغرف المحجوزة لنا، ومع أن الرحلة من جاكرتا كانت قصيرة لا تعب فيها ولا نصب فقد أصرّ مضيفونا على أن نرتاح إلى العصر حيث سيحضرون لنا سيارتين:
إحداهما للنساء، وسوف تصحبهم فيها أخت مسلمة من الجمعيّة تجيد اللغة العربيّة، والسيارة الأخرى ستخصص لنا نحن الرجال.
وبعد أن أدخلنا زوجاتنا بالغرف خرجنا نحن الرجال إلى الأسواق المحيطة بنا للاستكشاف فوراً، فوجدنا في السوق المقابل لنا مطعماً مزدحماً بالناس، وقد تبيّن لنا أنّه يبيع الوجبات المحلية السريعة، ووجدناه يبيع رزاً به شرائح لحم دقيقة، وكان منظره بديعاً وشكله مغرياً كثيراً، ورأينا عليه إقبالاً كبيرأ، فقال أحدنا:
لماذا لا نأخذ لأهلنا من هذا الرز للغداء؟
فردّ عليه الآخر: لكن ما نوع هذا اللحم؟ نخشى أن يكون خنزيراً.
قلنا: فلنسأل العاملين في المطعم، فلما سألناهم:
( what kind of meat is this?) أي: ما نوع اللحم هذا؟
قالوا: ( this is hem) أي: هذا هيم.
فنظر بعضنا إلى بعض مستغربين؛ إذ لم نسمع من قبل بـ (الهيم)، لكن لعله (هام)، وهو الخنزير.
فسألناهم مرّة أخرى، ومن أجل التأكد:
( is this ham?) ، أي: هل هذا لحم خنزير؟
فقالوا: ( no, no, no, this is hem ) أي: لا، لا، لا، هذا هيم.
فقال أحدنا: يمكن أنّه لحم طيور؛ لأنّه أبيض، فلو جرّبناه.
فاشترينا منه غداءً سفريّاً، وحملناه إلى الفندق، واجتمعنا نحن الرجال في غرفة زميلنا العزوبيّ، واجتمعت المرأتان في إحدى غرفتيهما، وتغدينا في ذلك اليوم غداءً هنيئاً، وأعجب الغداء الزوجات إعجاباً شديداً حتى أنهن رغبن في معرفة مقادير الطبخة ووصفتها لكي يطبخنه في بيوتهن، وألححن علينا أن نغديهنّ كلّ يوم من هذه الوجبة اللذيذة، ومن منا يستطيع أن يقول لهنّ: (لا)؟، فصرنا كلّ يوم نحضر لهن من هذا المطعم ومن ذات الطعام غداءً طوال ثلاثة أيّام.
بل كان مضيفونا يعرضون علينا أن نتناول الطعام في بيوتهم أو في مطاعم متنوعة، لكنّ زوجاتنا يرفضن إلا هذا النوع من الطعام.
ولو كنت معنا في هذه الرحلة لوجدت سيارتين تقفان عند باب الفندق في الصباح وبعد العصر:
إحداهما للنساء مع الأخت المترجمة، والأخرى للرجال.
وكلّ صباح وكلّ مساء لهما برنامج مختلف غير متكرر، وهكذا مرّت أيامنا سريعة وشيّقة.
وفي اليوم الرابع، وبينما كنا نزور بعض المعالم السياحيّة، خطر ببال أحدنا ذلكم الـ (هيم)، والهيم في اللغة العربيّة: الإبل العطاش!!! فقال:
لماذا لا نسأل مرافقينا من الجمعيّة الإسلاميّة عن الـ (هيم)؟؟؟
فسألناهم، فجاءت المفاجأة مدوّية، إذ قالوا: إنّه شرائح لحم رقيقة من أكتاف الخنزير.
فانبلجت عيوننا حتى كادت تخرج من أحداقها، ونحن ينظر بعضنا في بعض باستغراب.
فسألونا: عسى ما أكلتموه، فقال أحدنا: (لا).
لكنّنا اتفقنا ساعتها على أمرين خطيرين:
الأول: عدم العودة لشرائه مرّة أخرى؛ فإن عدنا إليه فإنا ظالمون.
والآخر: أن لا نخبر زوجاتنا بذلك.
وسألناهم: هل يوجد قرب فندقنا مطاعم إسلاميّة؟
فدلونا على أقرب مطعم إسلاميّ.
¥