وبعد أن انتهت جولتنا الصباحيّة ذهبنا إلى المطعم الإسلاميّ، وأخذنا منه غداءنا، وعدنا إلى الفندق، فوجدنا أن الزوجات قد سبقننا بقليل، فأعطيناهن الغداء، ولم نكد نحن الرجال نقول: بسم الله، على الغداء في غرفة العزوبي حتى رنّ جرس هاتف الغرفة، فلما رفع صاحب الغرفة سماعة الهاتف مدّها لأحدنا قائلاً: هذه زوجتك، وإذا بامرأة على غير العادة تختصر الكلام، لكنّها غضبى جداً، فقالت:
تعالوا خذوا غداءكم إن كنتم تريدونه، فنحن ما ذقناه.
ما هذا الغداء؟؟؟
الحمد لله على النعمة!!! أهذا غداء؟؟؟
أين غداؤنا المعتاد؟؟؟
أصيب المسكين في مقتل، فلم يدر ما يقول، وحار وصار (أعيا من باقل)!!!!
وكنّا نحن الرجال نمكث في غرفة صاحبنا العزوبي حتى يأتي مضيفونا بعد العصر، ولا نقابل نساءنا إلا في الليل عند النوم (من تحصل له الفكّة مثل ما حصلت لنا؟).
وفي المساء وحين أوى كلٌّ منا إلى غرفته مكرهاً خائفاً كانت الأحوال قد انقلبت رأساً على عقب، فلا حديث من زوجاتنا عن جولاتهن اليوم كما كن يفعلن كلّ يوم، ولا سرور ولا أنس؛ فالأنس الذي كنا نلقاه بعد كل جولة قد انقلب إلى زعل.
ولو كنت بيننا حينما دخلنا الغرف لسمعت صوتاً عالياً يقول:
نحن نعرف أنكم تريدون تطفيشنا، ومغيضكم أننا مبسوطون في هذه الرحلة، وتحسدوننا على توفيق الله لنا بهذه الأخت المسلمة التي تدور بنا على الأسواق، وتتمنون أن نطلب منكم قطع الرحلة والإسراع بالعودة، وكلّ هذا حتى توفروا لكم قرشين!!!!
لكن ارجهنّوا (أرجو أن تكون هذه العبارة مفهومة) واجعلوا قلوبكم على كراسيها، لو نضطر إلى أن نصوم عن الغداء والعشاء فلا بد أن نكمّل رحلتنا ونشتري كلّ حاجاتنا.
لكن نحب نسألكم سؤالاً واحداً:
بكم غداؤنا اليوم؟ وبكم غداؤنا أمس؟؟؟
نحن متأكدون أنّه في أمس أرخص؛ لأنّه بكل يسر رز ولحم، ولكنه لذيذ جداً، وأعجبنا كثيراً، وطعمه في الرأس، أما اليوم فسمك (اللهم لك الحمد) وخضار وخبز ..... إلخ، يا جماعة أريحونا: رز ولحم فقط.
وكنت أنا قد ألزمت نفسي بالصمت إلا من قولي: الله يهديك.
وكنت أحاول أن أصغي إلى الصوت المرتفع أيضاً في غرفة جاري (أبي علي) الذي لا حسّ له ولا رِسَّ، لأننا قد اتفقنا على أن نكتم الحقيقة، وصمته كان يشجعني على سياسة الصمت.
ولكنني من قِبَلي حولتها إلى موعظة، فقلت لأم أسامة:
احمدوا الله على هذه النعم، أين أنتم من أسوتنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي كان يأكل ما يجد، ولم يكن يعيب طعاماً قطّ، وكان إذا أعجبه طعام أكل منه وإلا تركه.
ثم افترضوا أنّ المطعم الذي يبيع طعامكم الذي تحبونه قد أغلق أو احترق أو غيّر طعامه.
ولكنّ الجواب منها كان: نحن كلّ يوم إذا نزلنا من السيارة نراه أمامنا، ونرى تزاحم الناس عليه، فلا تمكروا بنا!!!!
ولن أطيل عليكم فقد تبدّلت أحوالنا رأساً على عقب، و أمست ليالينا نكداً في نكد، والسبب هذا الهيم المشؤوم، وهذا يؤكد بلا ريب أنه نجس في كل حال سواء أُكِلَ أم لا؟
وبعد أسبوع أقلعت بنا الطائرة السنغافوريّة إلى البحرين، وكان مقعدي ومقعد زوجتي وابني (أسامة) في الصف الأول؛ وقد علقوا أمامنا سريراً صغيراً للطفل الممهود (أنس)، وخلفي جلس أبو عليّ وزوجته وبنته (الجوهرة)، وبعد أن أعلن قائد الطائرة عن إمكانيّة فك الأحزمة، وبدأت المضيفات بتقديم الغداء فجأة بدأت أم عليّ بالاستفراغ والقيء الشديدين مما استدعى اجتماع عدد من المضيفات والإعلان عن الحاجة إلى طبيب، ومن ثم إعطاؤها حبوباً لإيقاف الاستفراغ.
سألت أبا عليّ بعد أن جلس بكرسيّ أم أسامة، وعادت أم أسامة لتجلس عند أم عليّ، سألته: ما الأمر يا أبا عليّ؟؟؟ فقال لي وهو يضحك _على غير عادته في مثل هذه الحالات_: تخبرني ملقوف، ولكن عساها ما تعود، لما قدموا لنا الغداء قلت لها: كلي بالعافية يا أم علي، أو تريدين أن نحضر لك من ذلك الهيم؟؟؟
أتدرين ما اللحم الذي كنا نبلوعه في الأيام الثلاثة الأولى؟؟؟؟
إنّه خنزير!!!!
وما أن قلت لها: خنزير، حتى حدث ما حدث!!!!
قلت له: هذا ما كنا نخشى منه، ألم نتفق على أن نكتم الحقيقة عنهن؟؟؟؟
على كل حال: لم تستطع أم عليّ أن تذوق لقمة واحدة طوال الرحلة ولا في الليلة التي مكثناها في المنامة عاصمة البحرين، أمّا أم أسامة سلّمها الله فتحوّلت إلى ممرضة لصاحبتها جزاها الله خيراً.
وأخيراً أقول: انظروا كيف تصنع جذوة الإيمان التي تستقرّ في القلوب، بعد أربعة أيّام من أكل آخر شريحة من خنزير، وبمجرد أن علمت بالحقيقة هاهي ذي أم عليّ تستفرغ، فكيف لو علمت بالحقيقة في لحظتها؟؟؟
لكن ليتنا تكون حساسيتنا من كلّ معصية هكذا: مع أكل الحرام، وشرب الحرام، ومع سماع الحرام، ومع المشي إلى الحرام، ومع فعل الحرام، ومع قول الحرام.
وبهذه المناسبة أقول: إنّ كلّ مؤمن تكون لديه نُفْرَةٌ واشمئزازٌ من الحرام كما حدث لأم علي في أول مرّة، فإن انتهى عنه فوراً صار سياجاً متيناً له ضدّه (كالتطعيم ضدّ الأوبئة)، وإن عاد إليه مرّة بعد أخرى ضعفت المناعة لديه حتى يحيط بقلبه فيصير كالران عليه يمنع عنه التذكر والحياء، وصدق الله تعالى إذ يقول: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)؛ والدليل على ذلك أننا نرى من البشر من مُسِخَ من الحياء حتى صار المنكر لديه معروفاً، والمعروف منكراً، وهذه أعظم البلاوي.
عصمني الله وإياكم من الحرام، وهيأ لنا سبل الحلال والخير.
ورحم الله أمي وأبي ووالديهم، وغفر الله لي ولهم ولكم أجمعين.
فقولوا من قلوبكم: (آمين، آمين، آمين).
أبو أسامة
27/ 1/1425هـ
¥