فاختار أن يكون له ذلك المقعد الوثير المطلّ على النافذة، وهو مقعد سمّي مجازاً مقعداً، وإلا فهو جدير بأن يسمّى سريراً؛ لأنّ مقاعد الدرجة الأولى في الطيران التشيلي تلك الخطوط الأمريكيّة الجنوبية أقرب ما تكون إلى الأسرّة منها إلى المقاعد، ولأجل هذه المزيّة ولغيرها من المزايا _ وفي مقدمتها لطافة المضيفين في طيران الدول الأمريكية الجنوبية عامة _ كنت أفضلها على الخطوط الأمريكية في رحلاتي من أمريكا الشمالية إلى أمريكا الجنوبيّة.
وحين كانت الطائرة تغادر البوابة مدفوعة إلى الخلف بتلك العربة الصغيرة التي تدفعها نحو ممرّ الإقلاع كنت سارح الفكر في هذه الطريقة البدائية التي تحتاجها كل طائرة قبل الإقلاع:
لماذا لم يخترعوا بالطائرات من أجهزتها ما يحرّكها إلى الخلف ذاتيّاً؟
وكيف تقدر هذه العربة الصغيرة على دفع هذه الطائرة العملاقة؟
وتذكرت حينئذ النملة التي تستطيع حمل عشرة أضعاف وزنها، واستدعت الذاكرة صورة رافعة السيارة التي سمّاها الناس؛ لاستغرابهم قدرتها الفائقة بـ (العفريتة) ...
وظلّت الذاكرة تستدعي صوراً تترى إثر صور، ولم يقطعها سوى دوران الطائرة ليصير جانبها الأيمن باتجاه الشمال الغربيّ؛ لتبدو لنا الشمس _ ونحن نستعدّ للإقلاع من مطار (دالس) بواشنطن ومن خلال نافذة الطائرة _ تبدو كصاج نحاس شديد الحمرة، فقلت لرفيق سفري:
يا أبا ياسر انظر إلى شدة حمرة شمسنا؛ إنّ شدة حمرتها عندنا في واشنطن خلال أشهر الصيف لا يفوقها إلا حمرتها في القطب الشماليّ، فما زاد على أن قال وهو يتثاءب:
(سبحان الله)!!!
فقلت: يا أبا ياسر هل غالَبَكَ النومُ؟
فقال: نعم.
فضحكت، وقلت:
فهمتُ الآن لماذا اخترتَ المقعد المجاور للنافذة!!!.
فردّ عليّ:
تعلم أنني ظهر هذا اليوم وصلتُ إليكم من الرياض، ولم تتركوا لي وقتاً لأرتاح في واشنطن يوماً أو يومين ...
فقلت له:
إنّ برنامج رحلتنا الاستطلاعيّة لدول أمريكا الجنوبيّة مضغوط جداً؛ فأنا (ممثل معهد العلوم الإسلاميّة والعربيّة في أمريكا) وأنت (ممثل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة) لا بدّ أن نزور تشيلي ثم الأرجنتين، ثم نلتقي مع بقيّة الوفود الأخرى التي تزور بقية دول القارة في ساوباولو بالبرازيل؛ لحضور المؤتمر الدولي الرابع لمسلمي أمريكا اللاتينية إن شاء الله ...
ثم ابتسمت وقلت له:
أقترح عليك أن تُدافع النوم حتى نصلي العشاءين، ونتعشى، ثم أمامك بإذن الله ثلاث عشرة ساعة كلها ليلٌ، فَنَمَ فيها نومَ العافيةِ إن شاء الله ...
قال: رأيك سديد، وسوف أحاول أن لا أنام، وبعد أن دعونا بدعاء السفر، وأقلعت الطائرة، ومرّت الدقائق العشر الحرجة في عالم الطيران، سألني الدكتور عبد الرحمن:
ماذا لديك من المعلومات عن تشيلي؛ فأنا أول مرّة أزورها؟
فقلت له:
وأنا مثلك أول مرّة أزورها، ووالله لا أعرف عنها شيئاً إلا أن فيها مزرعة للراجحي طولها سبعون كيلو متر، وعرضها ثلاثون كيلو متر جنوب العاصمة سانتيجو، ومنها يستوردون الفواكه لمصنعهم (الواحة) بالرياض لصناعة العصيرات.
وفي العاصمة التشيلية مسجد كبير بناه أيضاً الشيخ سليمان الراجحي جزاه الله خيراً، وله إمام اسمه عبد القادر الأشتر من سوريا، وهو أيضاً داعية يدفع الراجحي راتبه، وسيكون في استقبالنا بالمطار بإذن الله تعالى ...
وحين أذن قائد الطائرة بفكّ الأحزمة المربوطة استأذنا من المضيفين بأن نصلي في الفراغ الذي يتوسط الدرجة الأولى من الطائرة، فأذنوا، وكان منظرنا ونحن نؤدي الصلاتين لافتاً للأنظار من الركاب والمضيفين؛ لأنها ربما كانت المرة الأولى التي يرون فيها أناساً يصلون هكذا، مما جعل هذا الحدث مثاراً لنقاش بديع مع بعضهم ومفتاحاً مناسباً يغفل عنه كثير من الناس للدعوة إلى الله عز وجل وإلى دينه الحنيف ...
ومع آخر ملعقة من البوضة (الآيسكريم) التي يختم بها عشاء الطائرة، كان أبو ياسر لا يقدر على فتح عينيه من تسلّط النوم عليه ...
فراح في سبات عميق ...
¥