وأما أنا فرحتُ إلى حقيبتي لأستخرج منها رفيق أسفاري الدائم والذي لا يعرف النوم أبداً، وهو كتاب الله تعالى، أرتل منه ما تيسّر ... فقرأت فيه ما شاء الله؛ لأزداد طمأنينة في القلب، ثم استخرجت كتاباً أدبيّاً أتنقّل بين رياضه الخلابة قبل أن ألحق برفيق سفري أبي ياسر إلى عالم النوم والأحلام ...
...
لم يكن قد لاح في الأفق وَمْضُ سنى شارق حين بدأت زقزقة العصافير وشقشقة الطيور تدغدغ مسامع النيّام حتى حسبوا _ وأنا واحد منهم _ أنهم نيام تحت أفياء الخميلة، وليسوا في صندوق من الحديد طائر بين السماء والأرض، لكنّه أسلوب مبتكر لدى الخطوط التشيليّة لإيقاظ ركابها بأدب جمّ؛ لتناول الإفطار قبل الهبوط في المطار، حيث يضعون في جهاز التسجيل بالطائرة شريطاً لأصوات طيور في حديقة غناء، وهي لغة مشتركة يفهمها كل راكب مهما كانت لغته الأصلية دون حاجة إلى ترجمة ...
وقد دلّتْ سرعة يقظة الركاب على أنهم قد نالوا من النوم قسطاً وافراً؛ فأقلهم _ وأنا منهم _ ربما نام ثماني ساعات متواصلة، وأكثرهم _ ومنهم صاحبي أبو ياسر _ نام أكثر من عشر ساعات بلا ريب ...
وعندما فتح جاري عينيه وفتح النافذة قال:
ما زلنا في ليل يا أبا أسامة!!! متى نصلي الفجر؟؟؟
فقلت له:
أخبرني الشيخ عبد القادر أن طائرتنا تصل قبل الفجر إن شاء الله، وأنه سيصلي معنا الفجر في المطار بإذن الله ...
وحينما عاد الدكتور من دورة المياه مازحته قائلاً:
ما شاء الله عليك نمت نوماً طويلاً؛ ليتك تعطي الدكتور عبد الله التركي قليلاً من قدرتك على النوم في الطائرة؛ إنه لا يستطيع أن ينام دقيقة واحدة فيها مهما طالت الرحلة ...
فقال لي أبو ياسر:
وأنت ما تنام في السفر؟
قلت: بلى والحمد لله، لكن لست مثلك!!!
...
أعلن قائدة الطائرة أمره بربطة أحزمة المقاعد استعداداً للهبوط في مطار العاصمة التشيلية (سانتيجو)، فتطاولتُ ومددتُ عنقي لأطلّ من النافذة التي يحول أبو ياسر بيني وبينها، فلم أر في ظلام الليل سوى سلسلة من الجبال ممتدة (جبال الأنديز)، ثم بدأت تلوح عن بُعْدٍ أنوار متناثرة هنا وهناك، حتى صرنا فوق المدينة، فبدت الشوارع نائمة لا تكاد ترى فيها أنوار سيارات متحركة ...
وعند باب الطائرة كان هناك شاب يلبس جلباباً وعمامة شاميّة يبدو في الثلاثين من عمره، أبيض اللون، له لحية خفيفة الشعر، وكان يتفرّس في وجوه الركاب الذين يخرجون من الطائرة؛ لأنه يبحث عن أناس لا يعرفهم، ولم يسبق له أن رآهم، لكنهم بلا شك سيعرفونه من أول نظرة؛ بسبب لباسه المتميّز، فقلت لأبي ياسر:
هذا هو الشيخ عبد القادر الأشتر، فبادرته مسلّماً، وكانت علامات الإعياء بادية على محيّاه، فقلت له: سلامات، عسى ما شرّ يا شيخ عبد القادر؟؟؟
فقال: أبداً والحمد لله؛ لكنني ما نمت جيداً؛ لأنني خشيت أن يأخذني النوم فلا أكون في استقبالكم ...
وفي المطار أدينا صلاة الفجر جماعة، وبينما نحن في سيارة عبد القادر ذاهبون إلى الفندق قال لنا:
سأذهب بكم إلى الفندق؛ لترتاحوا حتى الظهر إن شاء الله، وبعد الظهر آتيكم لنذهب للغداء، وبعد العصر عندنا زواج إسلاميّ في المسجد، فما رأيكم أن تحضروه؟
فنظرت إلى أخي الدكتور عبد الرحمن، فقرأت في وجهه الموافقة، فوافقت قائلاً:
إنها فرصة أن نرى زواجاً في تشيلي ...
...
أقبلنا قبيل موعد صلاة العصر على المسجد الوحيد في سانتيجو، فإذا هو رائع البناء، شامخ المئذنة، لا يفوقها ارتفاعاً سوى جبال الإنديز المكسوّة رؤوسها بالثلوج حيث تحيط بالمدينة من الشرق، فتمتد العاصمة كامتداد الجبال في السهول التي إن التفتت عينك غرباً رأت المحيط أمامها، وإن صوّبت نظرها شرقاً اصطدمت بالجبال، وكان الجوّ بارداً على الرغم من أننا في شهر أغسطس؛ لأننا في أقصى جنوب الكرة الأرضيّة فهذا أوان شتائها.
لما وقفنا على باب المسجد لفت انتباهي أمران غريبان:
كثرة الحذاء النسائية، وكثير من أغطية الرأس النسائية المعلقة عند باب المسجد، وهي أقرب ما تكون إلى ما نسميه نحن في بلادنا (المسافع) ...
¥