وحينما دخلنا المسجد وجدنا في المصلى طاولات وكراسي كثيرة يجلس عليها أناس كثيرون، وأكثرهم نساء قد غطين شعور رؤوسهن بالمسافع، وحينذاك أدركت سرّ كثرة الأغطية المعلقة أمام الباب؛ لأن إمام المسجد أخبرنا أنه لا يسمح للنساء بدخول المسجد إلا بعد تغطية رؤوسهن، فقلت للإمام:
إنهن مغطيات الرؤوس لكنهن كاشفات السيقان والأفخاذ!!!
ولو قدّر لواحد منكم أن يكون بيننا في تلك الساعة لرأى صفوفاً من الكراسي كأنها صفوف مصلين، وأمامها باتجاه المحراب طاولة خلفها خمسة كراسي ... والنساء الكثيرات وقليل من الرجال على الكراسي ...
بادر بإقامة الصلاة خادم المسجد (محمد بن عبد الله النعيميّ)، وهو سعوديّ في الخامسة والأربعين من عمره، كان قد هرب من أهله في الخبر قبل ثلاثين عاماً؛ بسبب شدّة أبيه في تعامله معه، فاختفى بسفينة كانت متجهة إلى هولندا، فاشتغل بالسفينة حتى غضب عليه قبطانها مرّة، فرماه في تشيلي، فتزوّج هذا السعوديّ هناك بفتاة تشيلية رزق منها بتسع بنات لم يتزوج منهن أحد في تلك السنة التي لقيته فيها، وقد سمعت قصته المؤثرة، وأخبرني بأسماء أبيه وأمه وإخوانه وأخواته وأعمامه وأخواله، وأراني صورته السعودية، وقد بحثت عن أهله في المنطقة الشرقية بالمملكة فيما بعد، واستعنت بأمير المنطقة، فلم نجد أحداً يعترف به قريباً لهم ...
بعد أن صلينا ومعنا قليل من الحاضرين والحاضرات اكتشفنا أن أكثريّة الحاضرين غير مسلمين ...
ثم بدأت مراسم الزواج الإسلاميّ، فجلس الإمام على الكرسي الأوسط من الكراسي الخمسة التي تقع خلف الطاولة التي ذكرتها قبل قليل، وجلس على يمينه الدكتور عبد الرحمن، وكنت على يساره، وعلى يمين عبد الرحمن جلس أبو العروس، وهو (محمد أبو عيسى) فلسطيني الأصل، واضحة عليه معالم الثراء، وقد علمنا منه أنه قد هاجر إلى تشيلي بعد حرب 67، وجلس على يساري العروس < لا يقال: عريس، بل عروس للأنثى والذكر >، وكان أبيض اللون طويل القامة إذا رأيت عينيه لم تشك أبداً بأنه من الأصول المعروفة بالهنود الحمر، وكان يلبس بدلة سوداء، وربطة عنق أشبه ما تكون بالزهرة السوداء كالتي يلبسها العاملون في المطاعم الفاخرة.
وجلست العروس، واسمها (نائلة) مع أمها التي يبدو أنها ليست عربية، جلستا أمامنا في وسط الصف الأول من الصفوف، وبدا أن نائلة قد ورثت من أبيها صفة القِصَرِ، ومن أمها شدّة الشقرة وعدم سعة العينين ...
بعد أن سلمت على العروس سألت الإمام:
ما اسمه؟
فقال: خوان < وخوان ينطق بالخاء في اللغة الإسبانية التي يتكلمها كل أهل أمريكا الجنوبية عدا البرازيل الذين يتحدثون باللغة البرتغالية، وهي بنت للغة الإسبانية، وخوان بغير الإسبانية ينطق (جوان) أو (جون)، وكل هذه الأسماء معناها (يحيى) باللغة العربية >.
فخطر في بالي خاطر أن أسأل الإمام عبد القادر عن خوان:
أهو مسلم؟
فقال الإمام: لا أدري!!!
فسألت والد العروس، وهو الوحيد الذي يتحدث اللغة العربية مع الإمام والنعيميّ:
هل خوان مسلم؟
فقال: لا ... !!!!
فقلت:
كيف تزوّجه ابنتك المسلمة وهو غير مسلم؟
فقال:
وماذا في ذلك؟
فأردت أن أقوِّيَ حجتي _ وهي طريقة ذات تأثير نفسيّ عجيب _ فقلت:
هذا هو الشيخ عبد الرحمن معنا، وهو الذي يفتينا.
فقال عبد الرحمن:
لا يصحّ زواج المسلمة بغير مسلم.
فقال أبو العروس:
يا جماعة أرجوكم، والله ما صدّقنا أنه يتقدّم لخطبتها!
ألا تعلمون أنه في هذه البلاد يقابل كل ثماني نساء رجل واحد؟
أرجوكم ابحثوا لي عن حل ...
وارتفع النقاش واحتدّ بيننا ...
وطلبنا من الإمام أن لا يعقد لهما ...
وبدا الغضب على وجه الأب، وبدا علينا الإصرار الشديد، ووقع الإمام في حيرة شديدة ...
وبينما نحن في حيص بيص كان العروسان والحضور مثل الأطرش في الزفّة ...
فتدخّل العروس (خوان) في النقاش، وسأل:
ما الأمر؟
وما الحكاية؟
فأخبرته والأب يترجم لي: أنه في ديننا لا يصح له أن يتزوّج نائلة؛ لأنه غير مسلم.
فقال: لكنني أحبّها!!!
قلت: لكنّ دينها أعزّ عليها من الحبيب.
فقال لي: وما الحلّ؟
قلت له: نعم هناك حلّ واحد، وهو أن تسلم.
فقال: أنا مستعد أن أدخل في الإسلام، المهم أن أتزوج نائلة.
فقلت له: هيا أسلم.
¥