وإن كان طعام سحور أضاف إلى ما تقدم: نية الفوز بصلاة الله وملائكته على المتسحرين، والتقوي به على الصوم فهو الغذاء المبارك كما في حديث المقدام، رضي الله عنه، مرفوعا: (عَلَيْكُمْ بِغِذَاءِ السَّحَرِ فَإِنَّهُ هُوَ الْغِذَاءُ الْمُبَارَكُ)، ومخالفة أهل الكتاب فلا سحور في صومهم، لأنه لا صيام أصلا عند التحقيق!.
لك أن تتخيل كل تلك المعاني في مباشرة شهوات الجسد الحسية، لتعلم بما امتازالإسلام عن بقية الأديان والمذاهب الفكرية.
فأين هذا ممن يأتي حليلته إتيان الحمر إن كانت حليلته أصلا؟!
وأين هذا ممن يأكل كالأنعام لمجرد ملء البطن؟!. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
والجماعي: بتنظيم العلاقة بين الأفراد داخل الجماعة، وبين الجماعات، فقد سبق الإسلام بتشريعاته السامية: القوانين التي تنظم علاقات أفراد الجماعة الواحدة، والقوانين الدولية الخاصة التي تنظم علاقة أفراد الجماعة بأفراد الجماعات الأخرى، والقوانين الدولية العامة التي تنظم علاقة الجماعات.
فلم يهتم الإسلام، كما تهتم المناهج المادية المعاصرة، بإنتاج الجماعة دون التفات إلى احتياجات الفرد الروحية والجسدية، فقد استوعب: الروح والجسد، الفرد والجماعة، فهو دين عالمي يشمل كل الأحوال: أقوالا وأفعالا، علوما وأعمالا، عقائد وأحكاما، سياسات وأخلاقا، إنه الرسالة الخاتمة من رب السماء إلى أهل الأرض.
وهو الدين الوحيد الذي يحقق المصالحة العادلة الشاملة، بلغة ساسة العصر، بين الإنسان ونفسه، كما ذكر محمد أسد، رحمه الله، في كتابه: "الطريق إلى مكة"، لما شاهد جموع المصلين تنصرف وعليها السكينة من الجامع الأموي في دمشق الحبيبة، ولم يكن أسلم آنذاك، ولكن فطرته الأولى دلته على ذلك الشعور الذي لا تدركه أوروبا التي لم تستضئ إلى الآن بنور الوحي المنزل.
وهو الدين الوحيد الذي يجيب عن السؤال الذي يلح على كل عاقل: وماذا بعد؟، ماذا بعد الولادة والنشأة والدراسة والشهادة الجامعية والزواج والمنصب والمسكن والسيارة والثروة والوجاهة وأخيرا الموت، ماذا بعد القرار في القبر؟، فلا يجيب عن هذا السؤال إلا وحي إلهي، إذ لا استقلال للعقل بإدراك المغيبات فمحل عمله: الحسيات المشاهدة، فلا يجيب عما وراء الطبيعيات كما اصطلح على تسميتها المتأخرون، إلا الكتاب المنزل بآياته الشرعية التي فصلت القول في مصير البشر فـ: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، ولا تجد في الملل الأخرى تفصيلا لأحوال الموت ودار البرزخ ودار الجزاء، كما تجده في ملة الإسلام بأسانيد موثقة، ونقولات محققة، وحسبك بدين نقل إلينا آداب التخلي وقضاء الحاجة بالإسناد، بل نقل إلينا ضمن ما نقل أخبار الحمقى والمغفلين مسندة إلى أصحابها!!.
يقول محمد أسد رحمه الله:
"يختلف إدراك العبادة فى الإسلام عما هو فى كل دين آخر: إن العبادة فى الإسلام ليست محصورة فى أعمال الخشوع الخالص كالصلوات والصيام مثلاً، ولكنها تتناول كل حياة الإنسان العملية أيضاً، وإذا كانت الغاية من حياتنا على العموم عبادة الله، فيلزمنا حينئذ ضرورة أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تبعة أدبية متعددة النواحي وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها حتى تلك التى تظهر تافهة على أنها عبادات: أي نأتيها بوعي وعلى أنها تؤلف جزءاً من ذلك المنهاج العالمى الذي أبدعه الله، تلك حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مثل أعلى بعيد لكن أليس من مقاصد الدين أن تتحقق المثل العليا فى الوجود الواقع؟
"إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل، إنه يعلمنا أولاً أن عبادة الله الدائمة والمتمثلة فى أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها هى معنى الحياة نفسها ويعلمنا ثانياً أن بلوغ المقصد يظل مستحيلاً ما دمنا نقسم حياتنا قسمين اثنين: حياتنا الروحية وحياتنا المادية، (على طريقة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين)، يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا لتكون كلاً واحداً متسقاً إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى فى سعيها للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة فى حياتنا".
¥