"هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه هى فرق أخر بين الإسلام وبين سائر النظم الدينية المعروفة ذلك أن الإسلام على أنه تعليم لا يكفى بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلات المتعلقة بما وراء الطبيعة، بيم الأرض وخالقها فقط.
ولكن يعرض أيضاً بمثل هذا التأكيد على الأقل للصلات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية، (فهو يعم أحوال الفرد والجماعة كما تقدم). إن الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صدفة عادية فارغة ولا على أنها طيف خيال للآخرة التى هى أتية لا ريب فيها من غير أن تكون منطوية على معنى ما ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة فى نفسها والله تعالى "وحدة" لا فى جوهره فحسب بل فى الغاية إليه أيضاً، من أجل ذلك كان خلقه وحدة ربما فى جوهره إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد. (وقد حدد الكتاب العزيز تلك الغاية في كلمات موجزات: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، بكل ما تعنيه كلمة العبادة من عموم وشمول لكل أحوال المكلفين).
"وعبادة الله فى أوسع معانيها – كما شرحنا آنفاً – تؤلف من الإنسان معنى الحياة الإنسانية هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال فى إطار حياته الدنيوية الفردية". اهـ من "الإسلام على مفترق الطرق".
بتصرف نقلا عن: "العلمانية"، ص700_702.
ويحكي محمد أسد، رحمه الله، معاناة إنسان أوروبا المعاصر قائلا:
"أشعر وهذا شعور كثير من الناس الذين هم من جيلي أشعر أن هناك خطأ في التفريق بين الروح والجسد .. إنني أحلم بشكل من الحياة فيه يسعى الإنسان "كله" روحاً وجسداً في سبيل تحقيق ذاتي أعمق بشكل لا تكون فيه الروح والمشاعر عدوين كل منهما للآخر،
وفيه يستطيع الإنسان أن يتحقق بالوحدة فى ذات نفسه وبمعنى مصيره". اهـ
نقلا عن: "العلمانية"، ص709.
فقد صنعت الكنيسة تلك الجفوة المفتعلة بين الروح والجسد، فانتصرت للروح مطلقا، ولو في الظاهر، فجاءت العلمانية لتثأر للجسد، فانتصرت له مطلقا، وأما الإسلام فقد حل تلك المعادلة التي كان محمد أسد، رحمه الله، وأبناء جيله يبحثون عن حلها.
وتلك شهادة ممن عاش جاهلية أوروبا المعاصرة قبل أن يهديه الله، عز وجل، إلى حضارة الإسلام الناصعة، وأكثر الناس تعظيما لنعمة الإسلام: من عاش نقمة الجاهلية، فقد استبانت له سبيل المجرمين: نظرا وعملا، و: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، كما أثر عن الفاروق، رضي الله عنه، فلا تدرك نعمة الإسلام إلا بالنظر في أحوال بقية الأمم التي حرمت بركة النبوة الخاتمة، وبضدها تتميز الأشياء.
يقول الدكتور عماد الدين خليل في "تهافت العلمانية":
"في ظلال المجتمع العلماني يتمزق الإنسان بناء على تمزق مصيره، وتزدوج شخصيته اعتماداً على الثنائية التى اصطنعها بين المادة والروح والجدران التى أقامها بين تجربتي الحس والوجدان والجفاء الذى باعد به زيفاً بين عالمي الحضور والغياب بين ما هو قريب ومرئي وما هو بعيد لا تراه العيون والتصور الذي يصدر عنه الإنسان لا يوائم – بحال – بين العلاقات المعقدة المتشابكة التى تحكم الكون والعالم والحياة بل هو تصور يفصل بالقسر والعناد بين هذه العلاقات جميعها يمزقها تمزيقاً ويعمل فيها تقطيعاً وتشويهاً فتغدو طاقات الكون والإنسان والحياة وما بينها جميعاً من وشائج وارتباطات – تغدو فى حس العلماني وتصوره فوضى يسودها الانفصال والصداء والجفاء .. الدين يتناقض مع العلم، والفلسفة العقلية ترفض التشبث الطبيعى بالواقع الملموس والمذاهب الطبيعية لا تلزم نفسها بقيم خلقية أو إنسانية ......... وهكذا .. سلسلة من المصادمات التي لا تقتصر آثارها السيئة على العالم الخارجي فحسب بل في أعماق الإنسان وتجربته الذاتية كذلك". اهـ
نقلا عن: "العلمانية"، ص708.
¥