فالسياق وحده يكفي في الرد على من أساء القصد أو الفهم، فهي في حق جماعة من المنافقين نهي المسلمون عن اتخاذهم أولياء، وأمروا بقتلهم، إذ لا عهد لهم لتعصم به دماؤهم، مع عظم خطرهم على الإسلام وأهله، وإلى ذلك أشار القرطبي رحمه الله، بقوله: "أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء، فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال: (فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا)، كما قال تعالى: (ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) ". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 269).
فأي خطر أعظم على أمة الإسلام من أولئك مع استعلانهم بالكفر، فلو أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ما وسعنا إلا قبول ذلك منهم، وإن كانوا كفارا في نفس الأمر، كما في حديث خالد، رضي الله عنه، مرفوعا: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ"، ولكنهم استعلنوا بما في صدورهم من كفر، فوجب قتالهم حسما لخطرهم.
وأشار في موضع سابق إلى أحد الأقوال في أسباب نزول قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا)، بقوله:
"وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام، فأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لكم رجعتم؟ فقالوا: أصابنا وباء المدينة فاجتويناها، فقالوا: ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله عزوجل (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) الآية.
حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (5/ 268). وهو عند ابن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره بإسناد فيه إرسال.
فهم: مرتدون، لا عهد لهم، بل يجب قتلهم ردة، وقد جمعوا الوصفين: النفاق بالإسلام الظاهر ابتداء، والردة بإظهار ما أبطنوه من الكفر انتهاء.
ومثله قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فالأشهر الحرم هي الأشهر التي أمهل المشركون فيها إذ لا يقبل منهم إلا: الإسلام أو السيف، بخلاف أهل الكتاب الذين تقبل منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، مع إجلائهم عن جزيرة العرب، فلا مقام لهم فيها، امتثالا لوصية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)، والمجوس الذين ورد الأثر بإقرارهم على دينهم إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون من باب أولى فهم دون أهل الكتاب. فعند مالك، رحمه الله، في "الموطأ" في باب: جزية أهل الكتاب والمجوس، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قال الشافعي، رحمه الله، في رواية البيهقي، رحمه الله، عن أبي سعيد في: "معرفة السنن والآثار": "إن كان ثابتا فيعني في أخذ الجزية، لا في أن ننكح نساءهم ونأكل ذبائحهم".
وإلى طرف لطيف من تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ .......... )، أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله:
¥