الأخطار القدرية التي هي بيد الله تعالى وحده، ما هي إلا جزء من القوانين التي نظم الله الكون عليها، وما كان جزءًا من النظام فلا يمكن أن يهدم النظام، إلا بعد أن يستكمل مهمته, وأما الأخطار التي تصنعها أيدينا فهي المشكلة الحقيقية التي تواجه الإنسان
"
أنواع الخطر
لعلنا نتساءل: متى ابتعد الخطر عنا حتى نشتكي من ظهوره؟ نحن بني الإنسان نقف دائما مع الخطر على حافة الهاوية، يحيط بنا من كل جانب، ويكتنفنا من كل ناحية، فكوكبنا الصغير قد يذهب ضحية للنيازك والمذنبات، بل كل مجرتنا قد تبتلعها مجرة أخرى أضخم منها، وإذا جف الماء قتلنا العطش، وإذا سالت جبال الجليد قتلنا الغرق، وزلازل وبراكين وعواصف ورياح عاتيات .. إلخ. (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
لكن كل هذه الأخطار -أعني التي وردت قبل الآية الكريمة- لا ينبغي أن تقلقنا، إذ إنها صديقتنا التي لا طاقة لنا على منعها، وما لا طاقة لنا على منعه فليس أمامنا إلا العمل على تجنب أكبر قدر من أضراره إن استطعنا. المشكلة إذن تكمن في نوع آخر من الأخطار، هي تلك التي تصنعها أيدينا نحن البشر.
إن الأخطار القدرية التي هي بيد الله تعالى وحده، ما هي إلا جزء من القوانين التي نظم الله الكون عليها، وما كان جزءًا من النظام فلا يمكن أن يهدم النظام، إلا بعد أن يستكمل مهمته التي خلقه الله لأجلها.
وأما الأخطار التي تصنعها أيدينا، مثل هذه التي نتجت عن الاستعمال غير السوي للموادِّ والأحياء، والإسراف في استهلاك ثروات الأرض، والانحراف في الاستجابة للغرائز، ومحاولة اختراع أنماط اجتماعية تخالف ما رسخ في حياة البشرية منذ أبيها الأقدم .. هذه الأخطار هي المشكلة الحقيقية التي تواجه الإنسان، لأن النواميس الاجتماعية ربطت بهذه الانحرافات عقوبات صارمة تمثل جرس الإنذار الذي يحذر البشرية من الاستمرار في هذا المنحدر المهلك: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ولا أدري هل ثمة حكمة محددة من إيراد هذه الآية الكريمة في سورة قرآنية تحمل اسم "سورة الروم" دون غيرها من السور؟ غير أننا ندري أن القوانين الكونية والاجتماعية تمضي في طريقها، ولا تنظر إلى وجوه الناس ولا لغاتهم ولا غناهم ولا فقرهم ولا حتى أديانهم.
كما ندري أن من مصلحة البشرية كي تبقى أن تُعاقَب على بعض أخطائها حتى ترجع عن الطريق الذي في آخره الفناء العام لها. أما إذا تُركَت تفعل ما تشاء بلا رقيب ولا محاسب، فهذا يعني أنها ستُفاجَأ بنفسها وقد سقطت في وادي الهلاك السحيق، دون أن تستطيع العودة منه.
إنه قانون يشبه قانون الألم، فمع أن هذا الأخير مزعج وغير مرحَّب بزياراته، فإنه ضروري لمعرفة الأعطاب التي تطرأ على أبداننا قبل أن تستفحل ويستحيل علاجها.
ويشبه كذلك قواعد التربية التي تفرض على المربِّي أن يعاقب صغيرَه أحيانًا، حتى يتجنب من السلوكيات والأقوال والعادات ما يمكن أن يضر بجسده أو عقله أو قيمه المحترمة.
"
فلسفة الخطر معناها أننا أبدعنا الشكل الاتصالي والتوصيلي، لكننا لم نملك التحكم في المحتوى الذي يمر خلاله، والشكل أصم والمحتوى ناطق أو معبر في كثير من الأحيان، فلن تمر المنافع دون المضار، الأدوية دون الأوبئة، وكأنها ضريبة الحياة السهلة!
"
ضريبة الحياة السهلة
التيسيرات التي قدمتها الحياة المعاصرة للإنسان لا شك في ضخامتها، وقد أشار الدكتور أليكسس كاريل في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" إلى أن بعض الناس العاديين في هذا الزمان يعيشون في بيوت أشد فخامة من بيوت كثير من أمراء وملوك العصور السابقة، كما أُتيح لهؤلاء الناس العاديين من إمكانات المعاش ما لم يُتَح لأولئك القدماء ولو جزء ضئيل منه.
¥