وللعظيم آبادي في عون المعبود تعليق لطيفٌ على هذا الحديث خلاصته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّم معاذاً أن يستعين بالله في سائر أنواع العبادات .. فالذكر إشارة إلى عبادة اللسان، والشكر إشارة إلى عبادة الجِنان (أي القلب)، وحسن العبادةِ إشارة إلى عبادة الأركان (أي الجوارح)! وبهذا تُستوفى كل أنواع العبادة. [انظر عون المعبود]
وقد صدق من قال:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهادُهُ!
كم هي المراتُ التي عزمنا فيها على ضروبٍ من الطاعات في رمضان ثم لم نوفق لها؟
كم مرةٍ جلسنا مع أنفسنا وقلنا: سنختم كذا وكذا ختمة، ونصلي كذا وكذا ركعة، ثم وجدنا أنفسنا لا نفي بما عزمنا عليه ولا حتى بنصفه أحياناً!!
هل تعرفون السبب؟
السبب أنّنا فكرنا وقدرنا ولكننا مارفعنا أيدينا بصدق وقلنا: يارب أعنّا على ما عزمنا عليه من الطاعة، فوكلنا الله لأنفسنا!! ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِلَ إلى ضيعةٍ وعجز، ألم يقل نبيّنا صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أحمد -: (وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ)؟
لماذا يفتقر العبد في أداء العبادة إلى الاستعانة؟
لأنّه إنما يعبد الله بجوارحِهِ وهذه الجوارح بيد الله إن شاء بعثها وإن شاء قعَدَ بها، وتأملوا قوله تعالى: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم)، قال الشوكاني في فتح القدير: أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم. وعليه فمن شاء تنشيط جوارح للعبادة فليستعن بخالقها ومصرّفها.
كذلك يفتقر العبد في أداء العباة إلى الاستعانة لأنّه إنما تحسُنُ عبادتُهُ بحضورِ قلبِهِ وخشوعِهِ والقلوب – كما صح في الحديث عند مسلم – (بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحدٍ يصرفه حيث يشاء). فمن شاء تصريف قلبِهِ من الإدبار إلى الإقبال، ومن القسوة إلى اللين، ومن الغلظِ إلى الخشوع فسبيله أن يطرق باب الله ويستعين به.
وانظر جليل أثر الاستعانة في باب العبادة فيما رواه الذهبي في سيره [7/ 178] في ترجمة الزاهد القدوة شيخ العباد عبد الواحد بن زيدٍ، فقد ذكر أنَّ فُلِجَ في آخر حياتِهِ فعزّ عليه ألا يتوضّأ وألا يقوم بين يدي ربه فسأل اللهَ العون على ذلك، فكان إذا حانتِ الصلاةُ أُطلِقت جوارحه فقام وتوضأ وصلى فإذا رجع إلى سريره فلج كما كان!!!
ولاغرو وقد رأينا هذه الاستعانة أن يبقى عبد الواحد يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة!
أخي ..
إذا كانت الاستعانةُ بالله قد حركتِ الجوارح الميتة فنشطت للطاعة فكيف لا تبعث همةً خامدةً؟ وكيف لا تنشّط جسداً كسولاً؟ وكيف لا تحرك قلباً فاتراً؟
حدثني أخٌ كريم أنه كان إذا اعتكف في الحرم غلبه النعاس في صلاة القيام، وأنه احتال على ذلك بمحاولة زيادة (جرعة) النوم فصار يغفو حتى بين المغرب والعشاء حسب الإمكان .. ولكن بلا فائدة .. وحين هُدِي إلى الطريق الصحيح رفع يديه واستعان بالله صادقاً مخلصاً .. وصار قبل كل صلاة قيام يدعو بإلحاح أن يصرف الله عنه كل ما ينغص صلاتُهُ .. فإذا هو يجدُ للصلاة طعماً آخر! وماعادت قلة النوم تشغل باله!!
عليك – أيها الأخ - بهذا المفتاح مفتاح جمال الاستمداد كلما عزمتَ على طاعةٍ، وكلما رأيت فتوراً، وكلما هممتَ بأمر خيرٍ فلم تطاوعك نفسك .. وانظر من بعدُ كيف تتنزل عليك البركات.
المفتاحُ الثالثُ للنجاح الرمضانيّ هو (تحريك أشواق الفؤاد) .. وسرُّهُ أن القلبَ هو الذي يحمل الإنسان على الفعلِ إذا أحبَّ، ويحمله على الترك إذا أبغضَ، وأما العقل فقصارى أمره أن يقول لك: هذا صوابٌ وهذا خطأ .. أما الباعثُ والدافعُ والمحرّكُ فقلبيٌّ صِرْفٌ.
ومشكلتنا اليوم مع رمضان أننا (نعرفُ) كثيراً من فضائلِهِ وبركاتِهِ ولكننا (لانشعر) قلبياً بهذه الفضائل والبركاتِ، وبالتالي لا نشتاقُ إليها، ومن ثمَّ نبقى نراوح عبادياً في أماكننا!!
¥