ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 08 - 2009, 08:31 ص]ـ
ومن أدلة الاختراع والعناية:
قوله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)
فأعطى كل شيء من خلقه: الخلق الملائم له، فالخلق هنا بمعنى المصدر.
وقد يخرج على معنى المخلوق إذا نظر إلى آحاد المخلوقات على جهة التناسب والملائمة فيؤول المعنى إلى: أعطى كل مخلوق المخلوق الملائم له، وذلك ينصرف ابتداء إلى معنى الزوجية، فأعطى كل زوج نظيره الملائم، فلذكر الإنسان أنثاه، ولذكر الفرس أنثاه ............... إلخ.
وقد يخرج على الصورة المخلوقة لكل شيء، فأعطى كل شيء صورة مخلوقة تلائم ما خلق من أجله، فأعطى العين صورتها الملائمة للإبصار، وأعطى القدم صورتها الملائمة للمشي .............. إلخ، فلا تستعمل العين محل القدم، ولا تستعمل القدم محل العين.
وفي الشرعيات: أعطى كل زمن من العبادات ما يلائمه، فلكل وقت واجبه، والموفق من عرف واجب وقته فاشتغل بتحصيله فلم تشغله نافلة عن فريضة، أو فرض كفاية عن فرض عين كما يقع لكثير منا لقصور في الفقه وتلبيس من الشيطان يصرف به الإنسان عن الفاضل إلى المفضول، فإن لم يقدر على صرف العبد عن الطاعة إلى المعصية، صرفه عنها إلى فضول المباحات، فإن لم يقدر صرفه عنها إلى طاعة أدنى، فينال منه ولو بصرفه عن الفاضل إلى المفضول.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان اختلاف التنوع في أدعية الاستفتاح في الصلاة:
"وَأَيْضًا فَلِكُلِّ اسْتِفْتَاحٍ حَاجَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنُ بِحَظِّهِ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ. وَأَيْضًا فَقَدْ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى الْمَفْضُولِ وَلَا يَكْفِيهِ الْفَاضِلُ. كَمَا فِي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ أَيْ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْأَجْرِ مَا يَعْدِلُ ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الصِّفَةِ فَإِنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَا يُغْنِي عَنْهُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَلَيْسَ أَجْرُهَا مِنْ جِنْسِ أَجْرِهَا وَإِنْ كَانَ جِنْسُ أَجْرِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَفْضَلُ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى الْمَفْضُولِ حَيْثُ لَا يُغْنِي الْفَاضِلُ. كَمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى رِجْلِهِ حَيْثُ لَا تُغْنِي عَنْهَا عَيْنُهُ. وَكَذَلِكَ الْمَخْلُوقَاتُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ حِكْمَةُ خُلِقَ لِأَجْلِهَا فَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ. فَجَمِيعُ مَا شَرَعَهُ الرَّسُولُ لَهُ حِكْمَةٌ وَمَقْصُودٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَقْصُودِهِ فَلَا يُهْمَلُ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ". اهـ
وخرجه بعض أهل العلم على التقديم والتأخير على تأويل: أعطى خلقه كل شيء، و: "كل" بحسب ما تضاف إليه، على حد قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، أي: مما يؤتاه الملوك، فلم تعط ملك سليمان عليه السلام بداهة فذلك من العام الذي أريد به الخاص كما قرر البلاغيون، فأعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه لتستقيم حياتهم. فنبه بقوله: "خلقه" على: دلالة الاختراع فهم خلقه الذي أبدعه ابتداء، فمن عليه بإيجاده، ثم أعطاه كل شيء من الأسباب على حد العناية به فتلك: دلالة العناية.
والأظهر أن الشطر الأول من الآية: دليل على الاختراع، والشطر الثاني: دليل على العناية، فلم يخلقه ويتركه هملا كما زعم ضلال الفلاسفة الحائرون في الإلهيات، بل أمده بأسباب الهداية الكونية والشرعية، فهداه، كما تقدم، إلى أسباب بقاء نوعه، فالغذاء الخارج من الأرض يقتات به بدنه، والدواء يذهب به عطبه، على حد قوله تعالى: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، والتكاثر يحفظ به نوعه على حد قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)، وهداه، وتلك الهداية الأعظم إلى معرفته: فجاءت النبوات، وهي الطريق المهيع، لتحصيل الهداية الشرعية، بتقرير أخبار الإلهيات وأحكام الشرعيات التي هي السياج الواقي لعقد الإيمان القلبي، فإذا تخلفت استباحت الشياطين القلب وصرفت قوته
¥