تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بذاتها، فلا شيء يسيرها ويجريها، بل هي المؤثرة في تسيير غيرها استقلالا، وهذا خلاف ما قررته النبوات على حد قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، فذلك تقدير: العزيز فله كمال القدرة، العليم: فله كمال الحكمة، وتلك أوصاف الغنى المطلق، والتقدير: وصف فعل ثابت له، جل وعلا متعلقا بمشيئته في إيقاع ما شاء من الأفعال على جهة الاختيار، بخلاف تلك الأجرام فإنها مسيرة لا تستقل في جريانها في أفلاكها، إذ لا إرادة لها لتختار، وإنما هي مفتقرة إلى من يجريها، فتجري تبعا للسنة الكونية الربانية المطردة التي لا يقدر على إبطالها إلا الله، عز وجل، مجريها ابتداء، فبها انتظام أمر العالم، وهو مئنة من كمال ربوبيته إذ لو كان معه إله آمر ناه لحصل التضاد والتناقض بينهما فحصل الاضطراب في أمر العالم، وهو، عز وجل، الذي يبطلها إذا شاء على جهة الإعجاز لنبي أو الكرامة لولي أو الإهانة لِغَوِّي، وهو الذي يبطلها كلية إذا شاء قيام الساعة فيخرب العالم السفلي والعلوي، على حد قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ)، و: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) ولا يكون ذلك إلا عند اندراس أثر النبوات من الأرض على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ)، وفي رواية عند أحمد رحمه الله: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، فهي مفسرة لإجمال الرواية الأولى، فليس المراد مجرد النطق بلفظ الجلالة إذ لا تحصل النجاة بذلك، وإنما تحصل بإيراده في سياق النفي والإثبات الحاصر القاصر لمعاني التأله الحق له، عز وجل، فلا ينفك أي حدث كوني عن علة سابقة له، إذ الكون قد أقيم على الأسباب، التي جاءت الشرائع باعتبارها، ولا تنفك العلة عن علة سابقة لها، وشرط حاضر ومانع غائب، لتعمل عملها بإذن ربها، عز وجل، ولا تنفك العلة السابقة عن علة أخرى سابقة، فكلها غير تامة مفتقرة إلى غيرها حتى تنتهي إلى الكلمة التكوينية: (كُنْ فَيَكُونُ) العلة التامة المؤثرة في إيجاد معلولها على جهة الاستقلال، فلا تفتقر إلى سواها إذ قد قامت بالغني المتصف بكمال الغنى، فغناه ذاتي مطلق لا يفتقر إلى ما سواه، قد قامت بمن هذا وصفه من الكمال: قيام الصفة بموصوفها، فأخذت حكمه، فلها من تمام الاستقلال عما سواها من الأسباب، ما له من تمام الاستقلال عن الأسباب، إذ الصفة فرع الموصوف، وهذا أصل مطرد في كل أوصافه، جل وعلا، فهو الغني بذاته ووصفه فلا يفتقر إلى ما سواه في وجوده، وهو الغني بكلماته وأفعاله فلا تفتقر إلى العلل والأسباب في إيجاد ما سواه من الكائنات، بل الأسباب والمسبَّبات هي المفتقرة إليه، لتوجد أولا ولتعمل ثانيا، فتنتج معلولاتها وفق ما سن وقدر من سنن الكون المطردة، فإذا شاء أعملها فأنتجت العلة معلولها، وإن شاء عطلها فتخلف المعلول وإن وجدت علته، إذ هي غير تامة، فلا تؤثر بنفسها حتى يأذن الرب القدير بجريان تأثيرها في إيجاد المعلول، على حد قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)، فهي مفتقرة إلى أمره الكوني، وإن كانت أسباب قيامها وعلله موجودة، وذلك أمر مطرد في كل الأعيان: حيها وميتها، عاقلها وبهيمها، ومن كان منها عاقلا مكلفا فإنه مفتقر إلى الإذن الشرعي: إذن النبوات، لتستقيم حياته الأولى والآخرة، فالشرع الذي أنزله من له كمال العلم والحكمة، الذي: (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، فعلمه لما دق وخفي من الأسرار إذ هو الخبير مئة من حكمته التي صدر عنها ذلك الشرع المحكم الذ هو أمان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير