تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

للمكلفين ولو كانوا كفارا أو مشركين، على حد قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، فبقاء آثار النبوات مظنة صلاح العالم، وذهابها مظنة فساده، وهذا أمر مطرد في كل عصر ومصر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع أخر، فالأرض التي فيها نبوة أهلها أصح عقولا وأصلح أحوالا من الأرض التي ليس فيها نبوة، وإن تفوق الآخرون في تحصيل أسباب الحياة من تكنولوجيا حديثة وأسلحة متطورة، تكون، غالبا، لغياب النبوة الحاكمة، سببا في تدمير الحضارات وإبادة الشعوب كما وقع في هيروشيما، على سبيل المثال، إذ كان السبب الكوني حاضرا، والسبب الشرعي غائبا، فصار السبب الكوني: سبب هلاك، والأصل فيه أن يكون سبب حياة، ولا يكون ذلك إلا بعزله وتولية السبب الشرعي حاكما مهيمنا عليه، على حد قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، فالكتاب المنزل هو المهيمن، فرعا عن وصف مُنَزِّلِه بـ: "المهيمن"، وليست هيمنته: هيمنة جبار قهار فقط، كما ذهب إلى ذلك نفاة العلل والأسباب، الذين غلبوا جانب القدرة على جانب الحكمة، بل هي هيمنة جبار قهار له تمام القدرة، عليم خبير له تمام الحكمة، ولذلك تذيل آيات القدرة بالحكمة، لئلا يظن ظان أن الله، عز وجل، كملوك الدنيا، الذين يحكمون ممالكهم بالحديد والنار، فعندهم من القدرة ما يقهرون به الرعية، وليس عندهم من الحكمة ما يصلحون به أحوالهم، ولذلك تجد رعيتهم ساخطة كاظمة لغيظها لئلا ينالها من بطش المتملكة ما ينالها!. فالحال فاسدة وإن ظهرت أعراض الصلاح، فهو صلاح المضطر!

وقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) تذييل بعلة استحقاقه، عز وجل، تمام التأله، وهو جار على ما اطرد في الكتاب العزيز من: دلالة الاختراع والإيجاد:

وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ: من العدم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ: إظهارا لكماله المطلق، في مقابل نقص ما سواه، فحياته كاملة، وحياتهم ناقصة، وحياتهم مفتقرة إلى أسباب البقاء منه، وحياته لا تفتقر إلى ما سواه من الأسباب، فصار موتهم دليلا على كمال انفراده بوصف الحياة الكاملة، وتلك أصل صفات الرب، فلا بد أن يباين الخالق، عز وجل، المخلوق فيها، ليقع التمايز بين جنس الربوبية المستغني، في مقابل جنس العبودية المفتقر، فالرب: رب، والعبد: عبد، ومن خلط بين الجنسين، كما وقع من النصارى، فهم الأصل في ذلك، وأضرابهم من غلاة الملل والنحل، ففساد حاله ظاهر، إذ ساوى بين المتباينين، فأعطى الغني من وصف الفقير جفاء، وأعطى الفقير من وصف الغني غلوا، والتسوية بين المتباينين مئنة من فساد العقل، وفساد العقل بمخالفة خبر الوحي الذي جاء بضد ذلك من إفراد الرب، جل وعلا، بأوصاف الكمال المطلق على جهة الانفراد فلا يشاركه فيها أحد، فساده: ذريعة إلى فساد صاحبه فهو العاقل له عما يستقبح من قول أو عمل، الحاكم له بلجام القياس الصريح الذي أودعه الله، عز وجل، فيه، موافقا لخبر الوحي الصحيح، فإن استعمل ذلك العقل في رد ما يزكيه من الوحي، فقد فسد حاله بفساد تصوره الذي ينتج حكما فاسدا لا محالة، فتجد أعمال الكافر أفسد الأعمال، وإن كان له من ظاهر علوم الحياة المادية نصيب فتلك علوم يقدر كل صاحب عقل على تحصيلها إذا تيسرت له سبل ذلك، بل إن أعظم الأمم نصيبا منها في زماننا، وهي أمم الشرق الأقصى: اليابان والصين .......... إلخ هي: أفسد الأمم في باب العلم الإلهي، فلها من العلم الطبيعي ما جعلها على قمة هرم المدنية، وليس لها من العلم الإلهي نصيب فهي في ذيل الحضارة بمفهومها الشامل: حضارة الدين والأخلاق، ولعل سلوك عرق الهان الهمجي الذي بلغ الذروة في صناعة الدوائر الإلكترونية الدقيقة حتى صارت صناعة منزلية كصناعة النسج والحياكة عندنا، لعل سلوك أولئك المتحضرين بمقياس العلمانية المعاصرة تجاه إخواننا في تركستان الشرقية خير شاهد على فساد حالهم فرعا عن غياب النبوة، ولو أثرا دارسا في مدنيتهم التي لا تعرف رحمة، فلا تطعم إلا من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير