تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فخلق لكم ما في الأرض جميعا فضلا منه وامتنانا، فاللام، وإن دلت على الاختصاص إلا أنه: اختصاص امتنان لا اختصاص إيجاب، فلا يجب للعباد على ربهم شيء إلا ما أوجبه على نفسه، على حد قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، وقد استدل أهل الأصول بهذه الآية على أن الأصل في الأعيان المنتفع بها: الإباحة، إذ لا منة بمحرم، فلا يحرم إلا ما استثناه الشرع من الأعيان الخبيثة مما ضرره أعظم من نفعه، فذلك جار على اطرد من كلية الشريعة الجامعة: كلية تحصيل أكبر قدر من المصالح ودرء أعظم قدر من المفاسد، فما غلبت منفعته مفسدته أبيح، وما غلبت مفسدته منفعته حظر، وما تساوى فيه الوجهان حظر احتياطا من باب: تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، فتلك كلية أخرى تلتئم مع الكلية الأولى التئاما محكما يدل على كمال حكمة الشارع، عز وجل، وتتبع كليات وجزئيات الشريعة على جهة التأمل في وجه الحكمة أمر تفنى دونه الأعمار، إذ الحكمة وصف مطرد في الشريعة الخاتمة: أصولا وفروعا، فلا تجد فيها ما تجده من اضطراب أقيسة العقول المجترئة على مقام التشريع الإلهي، بمنازعته بما تفرزه من صديد الأفكار الأرضية التي تساس بها الأمم زمن احتجاب شمس النبوة، حتى تصير الفواحش التي تأنف منها البهائم: شرعا مقررا على وجه الإباحة، وربما الثناء إذ السكوت عنها سكوت الرضا: تقرير لمبدأ: الحرية المطلقة التي بشر بها أنبياء العلمانية الحديثة من قواد الثورة الفرنسية: ثورة: الحرية بالثورة على الأخلاق، والإخاء بالتسوية بين الأديان فيستوي الموحد والمثلث عابد الصليب والملحد و ......... إلخ.

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ: ففصدها بقرينة التعدية بـ: "إلى" فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ: باعتبار الأفراد، وذلك مئنة من قدرته النافذة، والقدرة كما تقدم، لا تنفك عن علم وحكمة فجاء التذييل بـ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: وتلك أوصاف الغنى المطلق، إذ القادر إن لم يكن عالما فهو مادة فساد عملي فرعا عن فساده العلمي، والعالم إن لم يكن قادرا فإنه مادة صلاح نظري لا أثر له في الواقع إذ لا طاقة له بالعمل الذي يصدق علمه في الخارج، والله، عز وجل، منزه عن كلا الوصفين: العجز والجهل، فلا يكون الرب عاجزا بنقص في قدرته، أو جاهلا بنقص في علمه، ولا ينفك قدح الأمم فيه، جل وعلا، عن ذينك الجنسين، وإن تعددت صوره، فلازم كل مقالات أهل الشرك والإلحاد وصفه، عز وجل، بما تنزه عنه من العجز، فهو علة فاعلة تنتج معلولها اضطرارا فلا قدرة له ولا اختيار عند الفلاسفة، وهو حال في ناسوت بشري يأكل ويشرب وينام ........... إلخ عند النصارى، والنائم يغيب عن الكون المشهود فيجهل من أحداثه ما يقع أثناء منامه، فمقالتهم جامعة للوصفين، فضلا عن عجزه التام عن دفع الصائل عليه من يهود على ما تقرر في فرية الصلب المزعوم، وهو عاجز بسلب أوصاف كماله عند منكري الصفات من الإسلاميين، وليس له منها إلا الاسم على جهة العلم المحض عند المعتزلة فضلا عن عجزه عن خلق أفعال عباده عندهم، فيكون في كونه ما لا يريد قهرا، وهو لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عند غلاة القدرية فذلك قدح في علمه، وهو لا يفعل ما شاء إذا شاء متى شاء كيف شاء، فليس له من صفات الأفعال الاختيارية نصيب عند المتكلمين الذي ساروا على طريقة أهل الاعتزال في الاقتباس من شعب مقالات فلاسفة اليونان لتقرير مسائل الإلهيات التي لا تتلقى إلا من وحي النبوات.

والشاهد أنه عز وجل: متصف بكمال ضد ذينك الوصفين من: كمال القدرة النافذة وكمال العلم المحيط وهوما ذيلت به الآية الكريمة كما تقدم.

فالوصفان منفيان عنه:

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).

و: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).

وكمالهما مثبت، كما تقرر آنفا، فهو، عز وجل، متصف بهما على جهة النفي تنزيها، متصف بكمال ضدهما على جهة الإثبات حمدا وتمجيدا.

وقبل هذه الآيات ببضع آيات:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

ففيها:

دلالة الاختراع والإيجاد: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

ودلالة العناية: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).

وهما مئنة من كمال افتقار المخلوق إلى خالقه عز وجل: إيجادا وإعدادا وإمدادا بأسباب الحياة من الرزق.

ولازمهما من وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فذلك مما يطرد ذكره في الكتاب العزيز ولو في مواضع متجاورة.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير