تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالرسل، عليهم السلام، قد بعثوا، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، لنعبد الله بشرعهم لا بذواتهم، فهو وسائل إلى معرفة مراد الرب، جل وعلا، لا وسيلة لعبادته بتقديس ذواتهم على سبيل الوسائط فذلك فرع عن مقالة: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وما بعثت الرسل، عليهم السلام، إلا لنقض ذلك التصور الفاسد.

فـ: "ذلكم الله": إشارة إلى علو مكانته الشأنية والقهرية والذاتية.

ثم جاء التعريض بالاستفهام الإنكاري التوبيخي: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: عن الغاية من تقرير دلالة الإيجاد إذ هو الذريعة إلى تقرير مسألة الألوهية مراد الرب، جل وعلا، من عباده: مراد القصد والغاية.

ثم أطنب في تقرير دلالة العناية:

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا: فتلك آيات آفاقية خارجية بعد الآيات النفسانية الداخلية: آيات الموت والحياة التي يعالجها المكلف في ذاته ليل نهار، فينام ويستيقظ، وتموت خلاياه وتتجدد باستمرار فتلك الآيات الآفاقية على حد:

ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ: فهو من أوصاف فعله المتعلقة بمشيئته، وذلك، كما تقدم، صادر عن كمال قدرة العزيز وحكمة العليم تبارك وتعالى.

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ:

وذلك من آياته الآفاقية الخارجية، فهو جار على حد الإطناب المتقدم في تقرير دلالة العناية، إظهار للمنة الربانية التي تحمل ذوي العقول على توحيد الرب، جل وعلا، بأفعال التشريع والتكليف، فرعا عن توحيده بأفعال التقدير والتكوين، ولذلك ذيل الآية بقوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فالمقام: مقام تفصيل في معرض الامتنان، وذلك مما يحسن في حق الرب، جل وعلا، المنفرد بكمال النعمة على عباده، بأن قدرها وهيأ لها الأسباب، ويقبح في حق العبد، إذ امتنانه على غيره مظنة الأذى، والأذى محرم، فلا يتقرب به إلى الرب، جل وعلا، بداهة، على حد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى). فضلا عن كون عطاياه: عارية استودعه الله، عز وجل، إياها، ليتصرف فيها على حد الشرع، فليس له من طلاقة الإرادة ما للرب، جل وعلا، الذي يعطي من شاء فضلا ويمنع من شاء عدلا، فلا يسأل عما يفعل لكمال قدرته وحكمته، بخلاف العبد الذي يسأل عما يفعل إذ هو مستخلف فيما تحت يده من الأملاك والأسباب: استخلاف ابتلاء وامتحان، فلا يسأل، عز وجل، لكمال ربوبيته الآمرة، ويسأل العبد لكمال عبوديته المأمورة.

فقد: فصلنا الآيات: الكونيات في معرض التقرير، والشرعيات في معرض التكليف، فآياته الكونيات علة استحقاقه تمام التأله بآياته الشرعيات، فتلك وسيلة وهذه غاية، وتلك مقدمة عقلية صريحة مستندها الخبر الصحيح، وهذه نتيجة صحيحة، فمن خلق إيجادا وامتن عناية هو المستحق للعبادة بداهة، ولا يعبد إلا بما شرع، إذ ذلك من تمام ربوبيته، فلم يخلق العقول على حد التفاوت، ليعبد كلٌ بما يستحسنه قياس عقله، وإنما خلقها على هذا الحد إظهارا لكمال قدرته بخلق المتفاوتات فذلك، كما تقدم، مئنة من كمال قدرته وحكمته إذ بضدها تتميز الأشياء.

وفي قصر التفصيل على: "قوم يعلمون": تعريض بمن لم يستعمل قياس عقله بالنظر في الآيات الكونيات نظر التدبر والتأمل، في تأييد أدلة الوحي الصحيح، فنظره: نظر المتعلق بالأسباب دون التفات إلى ربها ومسبِّبها ومجريها وفق سنن مطردة محكمة، فإن تلك الآيات، كما تقدم مرارا، شاهدة على نفسها بالعجز عن الاستقلال بالتأثير، فلا بد لها من علل مكملة، ولا بد من انتفاء ما يعارضها من العلل المانعة، فلا تصلح علة كاملة، وإنما ترجع إلى علة واحدة قطعا للتسلسل في المؤثرات هي كلمات الرب جل وعلا الكونيات النافذات.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير