تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فذلك من دلالة الإيجاد ففي السياق تنويع بين الدلالتين، وهي من دلالات الإيجاد النفسانية، قسيمة الآيات الآفاقية الخارجية، على حد قوله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ): فآيات الأرض: آفاقية، وآيات الأنفس من اسمها: نفسانية.

ثم ذيل بالغاية، كما تقرر في الآية السابقة، وزيد في المعنى، فالفقه أخص من العلم، إذ بزيادة الأدلة بيانا، وزيادة النظر تأملا، يزداد أولوا الألباب الصريحة علما فترتقي العقول من مرتبة العلم الأعم، إلى مرتبة الفقه الأخص، فيكون قصر التفصيل في هذا السياق تعريضا بمن علمه على حد قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، فالتفصيل في حق عموم المكلفين: تفصيل إقامة للحجة الرسالية بالآيات الكونيات المنظورة والآيات الشرعيات المتلوات على ألسنة الرسل المسطورات في صحيح الكتب، فمناط التكليف بها صحة الآلة العقلية إذ العقل شرط في صحة التكليف.

بخلاف التفصيل في حق من وصفهم: "قوم يفقهون"، فهو تفصيل إقامة للحجة ابتداء يستوون فيه مع عموم المكلفين المخاطبين بأمر الشرع المنزل على حد الابتلاء أمرا ونهيا، وتفصيل انتفاع بالإقرار والامتثال، فذلك مما انفردوا به، فليس كل صاحب آلة عقلية صحيحة مهتدٍ، بل منهم من استعمل آلته في معارضة الشرع وحربه، كحال كثير من أعداء الرسل في كل العصور والأمصار من أهل الإلحاد: أصحاب الطريقة الإبليسية طريقة: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الذين عارضوا الوحي المنزل بأقيسة عقولهم الفاسدة، فإبليس إمامهم إذ عارض الأمر الشرعي بقياس مقدمته فاسدة: أنا خير منه إذ خلقتني من جنس النار الأعلى، فتولد عنها فساد في النتيجة: الفاضل لا يسجد للمفضول فكيف أسجد لبشر خلقته من جنس الطين الأدنى، وكذلك من عارض الشرع بعقله فلسان حاله: قياس عقلي خير من خبر الوحي فكيف يتبع الفاضل المفضول؟!.

ثم أطنب في معرض التنويع بين الدلالتين، فأشار إلى دلالة العناية بتلك الأجساد المنشأة فـ:

فهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ: فذلك غذاء الأبدان التي خلق من مادتها الطينية الأرضية. ولازم ذلك:

انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ: نظر التأمل والتدبر في معرض تقرير انفراد الرب، جل وعلا، بأفعال الربوبية خلقا وتقديرا، إذ لا خلق إلا بتقدير، فانتقال الحبة إلى نبتة غضة، إلى شجرة مثمرة إلى جنة وارفة لا يكون إلا بتقديرات كونية متتالية وكلمات كونيات متعاقبة و: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ:

على ما تقرر من التدرج من العموم إلى الخصوص بدرجاته، فالعلم أعمها، والفقه أخص، والإيمان أخصها، وتسلسلها تسلسل عقلي صحيح، إذ هي مما يترتب على بعضه البعض ترتب المسبَّبات على أسبابها فالعلم ابتداء: سبب في النظر تفقها باستنباط العلوم النظرية من المقدمات الضرورية التي يستوي فيها كل المكلفين، فالكل يدرك من آيات الكون ما تدركه حواسه الظاهرة، فذلك من جملة العلوم العقلية الضرورية فضلا عن العلوم الفطرية الغريزية، فالعبد قد فطر على افتقار ذاتي إلى رب يكلؤه، بالقدر الحافظ والشرع الحاكم، ولا يجحد ذلك إلا مكابر قد ادعى لنفسه من أوصاف الغنى ما ليس له فحاله يشهد على بطلان دعواه، إذ افتقاره إلى أسباب البقاء، ولو كانت حسية يستوي فيها مع البهائم!، افتقار ذاتي أصيل.

والفقه الخاص مؤد إلى الإيمان الأخص.

فالتذييل بوصف الإيمان بالآيات الشرعيات لمن انتفع بتفصيل الآيات الكونيات تعريض بمن انصف بضده من الكفران، إذ ليس له من التفصيل إلا ما تقام به الحجة عليه، كما تقدم، والتذييل بذلك الوصف جار على ما تقدم من تأصيل النتيجة بعد تقرير مقدماتها من صور دلالة الإيجاد ودلالة العناية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير