تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم جاء الإنكار تصريحا لا تلميحا على أولئك الذين فسد تألههم مع تحقق دلالات الإيجاد والعناية فيهم كبقية المكلفين، فوجودهم منة ربانية أولى، وتيسير أسباب البقاء لهم منة ربانية ثانية ومع ذلك:

جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ: على حد الاعتقاد على وزان قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)، وَخَلَقَهُمْ: ففيه تنبيه على بطلان شراكتهم بداهة إذ لا يشارك المخلوق خالقه فليس ندا له أو مثيلا، لتصح تلك الشراكة، بل في عالم المخلوقات لا يشارك العبد سيده، وإن استويا في وصف الخلق، فكلاهما من جنس واحد: جنس المخلوقات المربوبة ومع ذلك قبح عقلا أن يستويا، فانتفاء التساوي بين الخالق والمخلوق ثابت من باب أولى.

وفي التنزيل: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ: فوصفوه بعين ما اتصفوا به من الفقر الذاتي، إذ المخلوق هو الذي يفتقر إلى الولد، ليعينه إذا عجز، وذلك منتف في حق الرب القادر، جل وعلا، بداهة، بل تعدوا ذلك إلى حد وصفه بأدنى الجنسين: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)، فذلك مجمل بينه قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ)، و: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى): على حد الاستفهام الإنكاري الإبطالي، وليس له مفهوم ليصح قول من قال: بل له الجنس الأعلى، فيصح في حقه اتخاذ الولد إن كان ذكرا، بل وصف الولد منفي عنه مطلقا، إذ لا ينفك عن وصف النقص الذي تنزه، جل وعلا، عنه، إذ لا حاجة له إلى مؤنس أو معين أو خليفة، بل هو الذي يأنس به الموحدون، ويستعين به العاجزون، ويستخلفه المسافرون، فخلافته لعباده، كما تقدم، خلافة الابتلاء بإقامة شرعه في أرضه. على ما جاءت به رسله عليهم السلام.

وقيد: "بغير علم": لا مفهوم له، إذ ليس من تلك الدعوى ما هو بعلم، بل ذلك إمعان في بيان قبحها العقلي وبطلانها الوجودي.

ولذلك ذيل بقوله تعالى: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ): في معرض النفي تنزيها.

ثم جاء الإثبات بعد النفي على حد الشهادة: لا إله: نفيا، و: إلا الله: إثباتا، فالإثبات هو المراد لذاته، ولذلك يرد مورد التفصيل، بخلاف النفي الذي يرد مورد الإجمال، على حد قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، إلا في مواضع كهذه حَسُنَ فيها التفصيل درءا للشبهة فهو:

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: على غير مثال سابق، فذلك من دلالة الإيجاد في معرض بيان كمال القدرة التي يقدح فيه اتخاذ الولد، إذ هو مظنة العجز، كما تقرر آنفا، ولذلك جاء الاستفهام في معرض الإنكار الإبطالي:

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ: نكرة في سياق الاستفهام الإنكاري الإبطالي لما بعده تفيد عموم نفي جنس الولد: ذكرا كان أو أنثى.

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ: وتلك نكرة أخرى في معرض النفي الصريح، فليس له ند أو نظير، والصاحبة لا تكون إلا من جنس صاحبها، وجنس الربوبية لا تتصور فيه الشراكة، إذ تعدد الأرباب لازمه تعدد الآلهة، وتعدد الآلهة لازمه فساد نظام الكون بتعارض أوامرهم، وذلك أمر يشهد ببطلانه اطراد سنن الرب، جل وعلا، في كونه، فجريانه على ذلك النسق المحكم شاهد بكمال ربوبية وألوهية موجده تبارك وتعالى.

وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ: عموما لا مخصص له، إذ: "كل" بحسب السياق الذي ترد فيه، فخلق ما سواه من الكائنات، إذ هو، جل وعلا، بذاته وصفاته، أول غير مخلوق بداهة، فكيف صح في الأذهان ادعاء اتخاذه صاحبة أو ولدا من جنس خلقه المربوب، وهو الخالق الرب لكل موجود، فاستوفى التقسيم في الآية كل الاحتمالات العقلية سبرا أتى عليها بالبطلان، فليس له ولد وهو المسبَّب، إذ ليست له صاحبة على ما اطرد من سنة التولد من اثنين من جنس واحد، ولم يتخذ ولدا على سبيل الاصطفاء أو التبني أو التولد الذاتي بلا صاحبة، إذ هو خالق كل شيء، فباين الخالق، عز وجل، المخلوق بداهة، فلا يتولد منه إذ لا يتولد المخلوق من الخالق، والاصفاء والتبني أدنى من التولد، إذ العقيم هو الذي يتبنى، فإذا انتفى عنه وصف التولد الأعلى انتفى عنه وصف التبني الأدنى من باب أولى.

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: فخلقه صادر عن علم أزلي سابق على ما اطرد من كونه فاعلا بالإرادة والاختيار، فذلك لازم العلم المحيط، وهو جار، أيضا، على ما تقرر من الجمع بين أوصاف القدرة والحكمة في معرض الاستدلال لكمال الربوبية ولازمها من وجوب إفراده بالألوهية.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير