تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ: يجتمع فيه الدلالتان: دلالة الاختراع فهي من الآيات الكونيات البديعات، على حد قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، فهي آية كونية لمن تأملها شاهدة بقدرة خالقها، تبارك وتعالى، إذ أخرج الضد من ضده، وتلك من أخص أوصاف الربوبية، فأخرج الحي من الميت، وأخرج النور من الظلمة، وأخرج الأنثى من الذكر ............... إلخ.

وجمع الظلمات إذ صورها المادية أو المعنوية متباينة بخلاف النور فإن جنسه واحد سواء أكان ماديا أم معنويا، فطرق الضلال متشعبة، وطريق الهداية واحد، إذ الحق واحد لا يتعدد، والباطل كثير متعدد، فلكل عقل يخترع، ولكل هوي يستحسن ويستقبح، ولا يفصل النزاع بين تلك الأهواء إلا الوحي النازل من السماء.

ودلالة العناية: إذ لولا جريانهما وفق تلك السنة الكونية المحكمة لفسد حال الخلق، أعيانا وأفعالا، وفي التنزيل: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا)، فالنهار للمعاش تحصيلا لمنافع الأديان والأبدان، والليل للسكون والراحة صيانة لآلة التكليف.

وكما اطرد من اقتران أدلة الربوبية: اختراعا وعناية، بأدلة الألوهية جاء الإنكار على الكفار الذين عدلوا بالله، عز وجل، في مقام الألوهية ما ليس له بِنِّدٍ في مقام الربوبية، فسووا بين المختلفات، وذلك عين الفساد في التصور العلمي الذي ولد فسادا في الحكم العملي حملهم على صرف ما لا يصرف إلا للرب الكامل، عز وجل، من أجناس التأله إلى المربوب الناقص الذي لا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا.

ثم أطنب، جل وعلا، في بيان دلالة الاختراع في معرض تقرير قضية الألوهية قطب رحى صلاح الأديان، فالأولى: قطب رحى صلاح الأبدان بخلقها من الطين، وقضاء آجالها من الأزل، فله كمال القدرة على الخلق وكمال الحكمة في الإيجاد والإعدام إذ قضى لكل كائن ما يلائمه، فتظهر حكمته الباهرة لمن تأملها، ولك أن تتخيل حال العالم لو لم تصر الأجيال إلى زوال، ولم تأكل الأرض الأجساد، فالموت في حد ذاته آية كونية باهرة فيها من الرحمة بالنوع الإنساني على وجه العموم ما يفوق ألم الميت على وجه الخصوص، فضلا عما فيها من دلائل الربوبية القاهرة، فبها امتاز الحي الذي لا يموت عن الحي الذي سبقه العدم ولحقه الفناء، واعتراه ما اعتراه من أوصاف النقص من عجز وكسل، ومرض وهرم .......... إلخ.

وهم مع ذلك: في مرية مع قيام الأدلة الكونية الدامغة على صحة الأدلة الشرعية الحاكمة.

وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ:

وذلك، أيضا، من أدلة عموم ربوبيته، فهو المعبود في السماوات وفي الأرض: إله في السماء يعبد وإله في الأرض يعبد مع علوه عن خلقه علو ذات وشأن وقهر، فليس كونه المألوه في الأرض: ألوهية الحق فلا معبود بحق سواه، ليس كونه كذلك مما يدل على أنه حال فيها بذاته القدسية بل ذلك على وزان: فلان أمير في مصر، أمير في الشام، فله الحكم فيهما وإن لم يحل بذاته فيهما في نفس الوقت، ولله المثل الأعلى، فهو في السماوات، إن حملت على معنى العلو المطلق على الخلق، فقد علا بذاته واستوى استواء يليق بجلاله على سقف مخلوقاته: العرش: أعظم المخلوقات، أو بحمل: "في" على: "على" إن أريد بالسماوات: السماوات السبع المخلوقة، فقد علا عليها وعلى ما هو أعظم منها، فعلوه ذاتي عام على جميع المخلوقات فِعْلِي خاص على أعظمها وأعلاها: العرش.

ومع علوه فهو قريب بعلمه فـ: يعلم سركم وجهركم، وتلك، أيضا، من أخص أوصافه، إذ له من السمع والبصر أكمل وصف، وله من العلم ما أحاط بعباده أزلا وأبدا فيعلم ما الخلق فاعلون وإلى أي دار هم صائرون.

وفي سياق تال: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ):

جاء الإنكار عليهم إذ لم يعتبروا بأحوال الأمم الغابرة: اعتبار الطرد والعكس الذي اطرد في التنزيل في معرض الترهيب بذكر أوصاف المعذبين، لئلا تسلك النفوس طريقتها فيكون لها مثل ما حل بها من العذاب، فهذا الطرد، ولتتحلى بأضدادها فيكون لها من أوصاف النعيم ما يضادها فهذا العكس.

ثم ذكر، عز وجل، من أوصاف العناية بتلك الأمم ما لو تأملوه لآمنوا وشكروا، ولكنهم حجدوا وكفروا، فمما امتن به الله، عز وجل، عليهم من العنايات الربانية:

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ:

فلما كفروا بتلك العنايات الربانية، فلم يوفوا بحقها من التكليفات الشرعية: استحقوا: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)، جزاء وفاقا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير