هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ: بيان بعد إجمال، فوردت الآية مجملة الكنه إمعانا في التشويق، ثم جاء البيان بعد الإجمال إرواء للغليل.
وأضيفت إلى الله، عز وجل، إضافة تشريف، فكل النوق له مخلوقة مربوبة، ولكن تلك الناقة قد اختصت بوصف الآية الكونية الباهرة فاستحقت مزيد عناية بإضافتها إلى بارئها، جل وعلا، إضافة تشريف.
لَكُمْ آَيَةً: على حد القصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير.
ومع كل آية كونية لا بد من تكليف شرعي فـ:
فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ: على حد الأمر الملزم، فهو على أصله إذ لا صارف له عن دلالته اللسانية، فالأصل فيه: الإيجاب، وقد جزم المضارع في جواب الطلب إمعانا في الدلالة على فورية الأمر، فالأصل فيه الفور، كما قرر جمهور الأصوليين على حد قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، فالمسارعة مظنة الفورية في امتثال الأمر، وأضيفت الأرض إلى الله، عز وجل، إضافة مملوك إلى مالكه، ومخلوق إلى خالقه، فليس عليكم إطعامها، وإنما ذروها فقط تأكل في أرض من برأها، وفي ذلك مزيد تقرير لمعنى الربوبية، ومزيد تخفيف في معرض التكليف الشرعي، ومع الأمر:
نهي: فـ:
لَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ:
على حد النهي الملزم، فهو على أصله، أيضا، إذ لا صارف له عن دلالته اللسانية، فالأصل فيه: التحريم، والنكرة في سياق النهي: نص في العموم، فلا تمسوها بأي سوء، عظم أو حقر، وذيل النهي بالوعيد زجرا على حد ترتب المسبَّب على سببه، فهو أبلغ في التصور العقلي إذ النتيجة فرع المقدمة، والمعلول فرع العلة، فحسن الربط بين السبب ومسببه بالفاء التي هي في هذا الموضع: نص في السببية، إذ سبقت بنهي، ونصب ما بعدها بأن مضمرة على ما قرر النحاة.
وأضيف الأخذ إلى العذاب على حد: إطلاق السبب وإرادة مجريه، جل وعلا، فهو الآخذ حقيقة، على حد قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، فأخذه بأمر ربوبيته القاهرة، فرعا عن مخالفة أمر ألوهيته الشارعة.
ونكر العذاب ووصف بالإيلام على حد المبالغة إمعانا في الزجر.
فهذه الآية جارية على حد تقرير مسألة الألوهية بدليل الاختراع والإيجاد للآية الكونية الباهرة على غير مثال سابق، فلا يبدعها إلا من له طلاقة القدرة على الخلق.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ: خلافة ابتلاء، سخرت لكم فيها منافع الأرض لإقامة شرع الرحمن لا للتمرد والطغيان، بمنازعة الرب، جل وعلا، أوصاف قدرته وقوته، على وزان من قال في مقام التجبر والاستكبار بغير الحق: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، و: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، وما علم المخذول أنه ملك عارية لا ملك عين، فليس له، لو كان ممن يسمع أو يعقل منه إلا سياسته وفق مراد مالكه، لا وفق مراده، إذ هو كالمُلْكِ الذي تحت يده: مربوب مخلوق، فكيف صح في الأذهان استقلال المربوب بأمر مربوب مثله بمنأى عن حكم ربهما وخالقهما حل وعلا؟!.
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا:
فتلك من دلالة العناية: الدلالة الثانية في مقام تقرير الألوهية، و: "أل" في الأرض إما أن تكون عهدية تشير إلى معهود بعينه هو: أرض الحجر، وإما أن تكون جنسية، باعتبار أرضهم فردا من أفراد عموم: "الأرض"، فهي جزء منها، فعلى الأول يكون المراد بالكل الجزء، فذلك من المجاز المرسل الذي علاقته الكلية، عند من يقول بالمجاز، أو هو من العام الذي أريد به الخاص، وعلى الثاني هو حقيقة إذ أراد جنس الأرض، ولعل دلالة العموم في القول الثاني آكد في بيان المنة فإنه إذا بوأهم جانبا من الأرض على حد التمكين فلا ينازعهم فيها أحد، ولا يقهرها عليهم أحد، ولا يشاركهم في خيراتها أحد، فكأنه بوأهم الأرض كلها.
¥