تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم عم بعد الخصوص إمعانا في بيان المنة الربانية المقتضية لالتزام الطريقة الشرعية التي بعث بها صالح عليه السلام: فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ: فهو من الجمع المضاف إلى المحلى بـ: "أل" وذلك من صيغ العموم في لسان العرب، ومع التذكير بأمر الربوبية لا بد من تكليف ألوهية بأمر أو نهي، فجاء النهي عن الإفساد في الأرض، فلا تستعمل النعم الربانية في حرب الأوامر الشرعية، فالأمور المخلوقة كونا لا يصح في الأذهان أن تكون حربا على الأوامر المسنونة شرعا.

فجاء النهي: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ: فالحال مؤكدة لعاملها، إذ لا يكون العثو أو العثي إلا في معرض الإفساد، فهو أشده، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فيكون ذلك من باب توكيد العثي الأخص بالإفساد الأعم، فهو أحد أفراده وأعظمها أثرا كما تقدم.

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ: على ما اطرد من سنن الرسل عليهم السلام فضعفاء الناس أكثر أتباعهم إذ هم الأسرع انقيادا إلى أمر الدين، فلا دنيا في أيديهم تصدهم عنه كحال المترفين: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)، وليس ذلك من شأن المرسلين، بل شأنهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، وإن كانت عاقبتهم في الدارين: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، ولكنهم يبتلون ابتداء ليعلم الصادق من الكاذب: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، وفي أزمنة العافية يسهل إطلاق الدعاوى، وفي أزمنة الابتلاء يظهر من بكى ممن تباكى على حد قول أبي الطيب:

إذا اشتبكت دموع في خدود ******* تبين من بكى ممن تباكي

وليس من الفقه أن يتمنى المرء الابتلاء، بل لا يعدل العاقل بالسلامة شيئا، فكم من معافى تمنى الابتلاء على حد قوله تعالى: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، فلما وقع ما تمناه: نكص على عقبيه وتمنى ما كان عليه ابتداء، فتوطين النفس على الابتلاء شيء، وتمنيه واستجلابه شيء آخر، فالعاقل لا يستدعي ما يفسد عليه دينه ودنياه، وإنما يستدفع الأقدار الكونية بالأسباب المشروعة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا وقع الابتلاء: فذلك مما لا حيلة له فيه، فإن قدر على رفعه بالأسباب إن كان مما يرفع، فليباشرها على حد التعبد بالأخذ بها، وإن لم يقدر فليشهد قدرة الرب وحكمته في إيقاع هذا المقدور، فذلك مما يهون عليه مصيبته، فلا يخلو المقدور، وإن كان شرا، من خير آجل، فهو شر باعتبار الحال، خير باعتبار المآل لمن صبر واحتسب، إذ فعل الله، عز وجل، كله خير، وإن خفي وجه الحكمة بادي الرأي، فالشر في المفعول لا الفعل، في المقدور لا المقدِّر جل وعلا.

واللام في: "للذين": لام التبليغ كما سماها ابن مالك، رحمه الله، على حد قوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، فحدها أنها: ما يتوصل به إلى إبلاغ مقول القول إلى المخاطب، فهي إلى حد التعدية أقرب.

ومقول قولهم المبَلَّغ:

أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ: على حد الإنكار المشوب بالاستهزاء.

قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ: أي المستضعفون، فعلمهم صحيح، فلا يصدر عنه إلا عمل صالح فقد اتبعوا الرسالات الهاديات، وذلك من توفيق الرب، جل وعلا وتسديده، إذ قربهم إليه فهداهم بفضله وأبعد غيرهم فأضلهم بعدله.

ولما كان سؤال الأولين: مئنة من فساد قوتهم العلمية التي بها يكون التصور الأول الذي تنبني عليه الأحكام العملية.

جاء الآيات مبينة لذلك:

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ: فهم على الضد في الحكم لاتصافهم بالضد من الوصف، فالمسألة من باب: قياس العكس، فالمستضعف مظنة الاستجابة والإيمان، وضده على سبيل المقابلة أو الطباق: المتكبر فهو مظنة الإعراض والكفران، ولكلٍ حكم يلائم وصفه، فالحكم دائر مع علته وجودا وعدما.

فترجم ذلك الفساد العلمي في الأذهان إلى فساد عملي في الأعيان بالتعدي وارتكاب المحظور الشرعي:

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ: فهو من باب عطف السبب على مسببه، إذ عتوا عن الأمر الشرعي ابتداء فتولد عن ذلك فساد في العمل إذ ارتكبوا عين ما نهوا عنه، بل أوغلوا في ذلك فقد نهوا عن مجرد المس بالسوء فارتكبوا أعظم صوره بإتلاف العين.

وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ: على سبيل التحدي الذي ذيل بشرط يفيد إلهاب المخاطب وتهييجه على إيقاع ما يتوعد به، على حد: إن كنت رجلا فافعل.

فجاء الجواب فوريا إمعانا في بيان طلاقة القدرة الربانية:

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ: فللرسل عليهم السلام من كمال العلم بالله، وتمام بلاغة المقال ما يبلغون به الرسالة على أكمل وجه، ولهم من كمال الإرادة والقصد منتهاه فهم أحرص الناس على نصح الخلق وهدايتهم.

وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ: فذلك كناية عن رفضهم النصح، إذ كرهوا من يسديه فردهم إياه ثابت على جهة اللزوم.

والمضارع مئنة من التجدد والاستمرار فذلك ديدنهم فهم بالعقوبة أولى وأجدر.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير